الرجوع

“حتَّى تتَّبِعَ مِلَّتَهُم”

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٤/١٥ |

هـ ١٤٤٠/٠٨/١٠

مِن أكثر الآيات القرآنية، التي يجري استغلالها باتِّجاه تأصيل حالة النزاع بين أَتْباع الأديان، واعتبارِها مُسلَّمة عَقَدِيَّة، وقانونًا اجتماعيًّا يتجاوز الزمان والمكان، ولا يَقْبل النقاش؛ قولُه تعالى: {ولنْ ترْضى عنْك اليهودُ ولا النَّصارى حتَّى تتَّبعَ ملَّتَهُم} [البقرة: 120]. وعادةً ما تُشْهر هذه الآية في وجه كلِّ مَن يسعى إلى بناء جسور المودَّة والوئام بين أتباع الأديان. وهكذا، يُعَدُّ كلُّ مَن يُشِيد بفضائل أتْباع ديانة أخرى، منحرفًا عن دينه، ومُوَاليًا لأعداء الله!

تَكمن المشكلة الحقيقية التي تُعالجها الآية الكريمة، في اختزال الهداية الإلهيَّة في مِلَّة واحدة. وهذا ناتج من اعتقاد أن المِلَّة التي يتبعها المتديِّن، هي وحدها التي تستحوذ على معاني الهداية كلِّها، وأن المِلَل الأخرى لا حظَّ لها من الهداية. ويُشِيع هذا مشكلةً بين أتباع المِلل عمومًا، والكتابيّة منها على وجه الخصوص. فالآية في مضمونها العميق تنتقد مُدَّعِي الاستحواذ على الهداية، مِن أتباع أيِّ مِلّة كانوا. وهذا هو معيار القسط الذي لا يميِّز بين أتباع ديانة وأخرى: {ليسَ بأمانيّكُم ولا أمانيّ أهلِ الكتَابِ من يعمَل سوءًا يُجْزَ بهِ} [النساء: 123]. ولعلَّ من يقرأ التاريخ، يُدرك أنه ما من مشكلة أو خطأ وقع فيه بعض أهل الكتاب، إلَّا ووقع فيه بعض المسلمين. فالتديُّن ظاهرة إنسانية متماثلة في دوافعها وغاياتها، وهي أيضًا متشابهة في مشكلاتها وأخطائها.

إن "عدم الرِّضا" عن التصوُّرات والمعتقدات الأخرى لعدم الاقتناع بها، له مبرِّراته العديدة. لكن، "عدم الرِّضا" عندما يتَّجه نحو الأشخاص وهُوِيَّاتهم التي يختارونها أو يولَدون عليها، فإنه يمثِّل خروجًا عن العدالة والاعتدال. فمَن لا يَرْضَ عن غيره لِكَونه على غير مِلّته، فقد اتَّبع هوى نفسه، وجعلها مَركزًا للحقيقة. وهذا الموقف ينطوي على رفض التنوّع الديني، وإلغاء حق الاختلاف، وقمع حرية الاعتقاد. ولا شك أن ذلك يُعدُّ أمرًا عسيرًا يَشقُّ على المتعصِّبين والغُلاة في كلِّ العصور.

مِن الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها كثير من الناس، اعتقاد أن كلَّ آية ذُكر فيها اليهود أو النصارى، فهي تَشمل وتعمُّ جميع أتباع الدِّيانتَين في كلِّ زمان ومكان، مَهْما كانت طوائفهم أو مذاهبهم! والواقع أن كلَّ آية لا بد أن تُفهم في سياقها المخصوص، كما هو الحال مع هذه الآية التي يتصل موضوعها بتغيير القِبْلة، وما كان يرجوه يهود المدينة ونصارى نَجْران من اتِّباع مِلّتهم، بسبب موافقة النبيِّ لهم في القِبلة، حسب ما يقول ابنُ عَبَّاسٍ: "هذا في القبلةِ، وذلكَ أنَّ يهُود المدينَةِ ونصارَى نجرانَ كانُوا يرجُونَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حينَ كانَ يصلِّي إلى قبلتهِمْ، فلمَّا صرفَ اللَّهُ القبلة إلى الكعبة أيسُوا منه أنْ يوافقَهُم على دينِهِم، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: ولنْ ترضى عنكَ اليهودُ، إلَّا باليهُوديَّة، ولا النَّصارى إلَّا بالنَّصرانيَّة" (تفسير البغوي، مَعالم التنزيل).

إنَّ تعميم الحكم على أهل الكتاب يخالف العديد من الآيات القرآنية، كما في قوله: {ليسُوا سواءً من أهلِ الكتابِ أمَّةٌ قائمةٌ يتلُونَ آيات اللَّهِ آناءَ اللَّيل وهُمْ يسْجدونَ} [آل عمران: 113]، {وإنَّ من أهل الكتابِ لمن يؤمنُ باللَّهِ وما أنزل إليكُم وما أنزلَ إليهم خاشعينَ للَّه لا يشترُونَ بآياتِ اللَّهِ ثمنًا قليلًا} [آل عمران: 199]. وقد أشار القرآن إلى أن مِن أهل الكتاب مَن يُحبُّون المسلمين: {ولتجدنَّ أقربهُم مودَّةً للَّذين آمنُوا الَّذينَ قالوا إنَّا نصارىٰ ذَلكَ بأَنَّ منهُم قسّيسينَ ورُهبَانًا وأنَّهُم لا يستَكبرُونَ} [المائدة: 82]. والمودَّة هي درجة أعلى من الرِّضا. وإذا امتدح الله مودَّة النصارى للمؤمنين برسالة الإسلام، فهذا يدلُّ على أن مِن أتْباع المسيح مَن يَرضَون عن المسلمين.

إنّ المخالف في المِلّة والاعتقاد، هو "مخالف" يجب احترام اختياره وحقِّه في التعبير عن معتقده. فالاختلاف بين أتْباع المِلل ليس مَدعاة للكراهيَة والعَداء؛ وإنما هو ظاهرة إنسانية، يُمْكن استثمارها وتقنينها فيما يعُود على الجميع بالنفع.

لا يمكن الارتقاء بالعلاقة بين الأمم والشعوب، دون نقد المفاهيم الإقصائية، التي تختزل الهداية والنجاة بفئة محدودة من خلق الله! ثم إنّ محاولة إقامة سياج ملتهب حول الهُويّة العَقَدِيّة لأتْباع هذا الدِّين أو ذاك، لن تَحُول دون محاولة ذوي البصيرة منهم، القفزَ خارج ذلك السِّياج.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive