الرجوع

حرية العقيدة أنْ نحرِّر الله في قلوبنا

الإثنين

م ٢٠١٨/١٠/٠٨ |

هـ ١٤٤٠/٠١/٢٨

اِجتمعتُ الأسبوع الماضي في مدينة طنجة بالمغرب، مع بعض مسؤولي الكنيسة الكاثوليكية بالمغرب العربي، للنِّقاش حول قضية الحريات الدينية. وقد استغرب بعضهم كيف أن مواقف الكثير من الدول الإسلامية بشأن حرية المعتقد، لا تزال غير منسجمة، ليس فقط مع المواثيق الدُّوَلية، بل حتى مع القرآن، الذي يجعل من حرية العقيدة فكرةً بديهيّة، وأساسًا لتنظيم العلاقة بين الإنسان وخالقه، وكذلك بين الإنسان وأخيه الإنسان.

في المغرب نعيش حالة مخاض صعبة وطويلة، من أجل اعتراف الدولة بحرية المعتقد. ففي سنة 2012 أصدر المجلس العلمي الأعلى، وهو أعلى مؤسسة دينية مغربية مكلَّفة بالإفتاء، فتوًى في حُكم قتل المرتدِّ عن الإسلام. لكن في سنة 2017 تراجعت هذه المؤسسة عن موقفها، من خلال وثيقة أصدرتها تحت عنوان "سبيل العلماء". شكَّلت الوثيقة اجتهادًا فقهيًّا، يرى أن الرِّدَّة الموجِبة للعقاب هي التي لها هدف سياسي، أي الْمسُّ بأمن الدولة (الخيانة العظمى)، وليست الرِّدَّة الفكرية أو العَقَدِيَّة، التي لم يُشِر القرآن بشأنها إلى أية عقوبة دنيوية.

لكن المجلس أكّد أن الأمر لا يتعلَّق برأي رسمي، بل فقط باجتهاد يخصُّ بعض العلماء. والحقيقة، أن الكثير منا ينتظر أن يتحوَّل هذا الاجتهاد إلى وثيقة رسمية، يجري اعتمادها قانونيًّا ودُستوريًّا، مع علمنا أن الانتظار سيطول؛ نظرًا إلى حساسية المسألة من الناحيتَين الدينية والسياسية، ونظرًا إلى ردود الأفعال في الأوساط السَّلفية، حتى في جزء من الرأي العامّ في هذه الوثيقة، التي اعتبروها "تعطيلًا للشريعة ولحكم الله".

مع ذلك، فإن وثيقة "سبيل العلماء" تُشكِّل تَحوُّلًا بارزًا. فهي إشارة إلى أن المُواطَنة لم تَعُد تَنْبني على الولاء للدِّين، بل للوطن، وهي أيضًا إشارة إلى إمكانيّة قبول قيمتَي التعدُّد والاختلاف، اللَّذَين لا يتنافيانِ مع الوَحْدة والأخوّة. ثم إنّ هذا الانخراط النسبي لمؤسسة دينية في تجديد الخطاب الديني، يعني أيضًا أن ثمّة مصالحة ممكنة للمسلمين، مع القيم الكونية لحقوق الإنسان؛ ما يدلُّ على أن فهْمًا جديدًا للإسلام أصبح ممكنًا، عكس ما تدَّعيه الجماعات السَّلفية، أو دعاة الإسلام التقليدي.

يجب تأكيد أن الحرية، من المقاصد العُليا للشريعة، التي جرى إغفالها بسبب تركيز الفقه على الواجبات والتكليفات، على حساب الحقوق والحريات. لذا، فإن قبول حرية الآخر في اختيار عقيدته، يعني أن يَدخل المسلمون في مرحلة الانسجام الأخلاقي مع دينهم؛ ذلك أني أعتقد أن دِينًا يعادي حرية العقيدة، لا يمكن أن يكون سماويًّا، بل هو منظومة أرضية للهيمنة، وأن الإله الذي يأمر عباده باضطهاد إخوانهم بسبب عقيدتهم، لا شك أنه إله زائف.

لهذا، أقول لإخواني السَّلفيِّين إنه كان من الأجدر أن يكونوا أوّل مَن يدافع عن حرية العقيدة، وألَّا يَقبلوا أن تكون القوانين متخلِّفة عن النص القرآني، الذي يُفترض فيه أن يشكِّل مَصدر القيم الاجتماعية وروح القانون. حتى لو افترضنا أن هناك إجماعًا بين العلماء حول "حَدّ الرِّدَّة"، فإني اعتقد أن هذا الإجماع لم يكن موفَّقًا ولا صالحًا، لا لزمانهم ولا لِزَماننا. فهو ليس إلّا صناعة فقهية ساهمت في تكريس الاستبداد، وفي منْحِ اضطهادِ المخالفين واغتيالِهم شرعيَّة دينية.

لا شك أن عملية تحرير مجال المعتقد من هيمنة الدولة والجماعات الدينية، وأيضًا النقاشات التي تصحبها، وتسمح بخلق حالة تغيير ثقافي؛ هي شرط أساسي للدخول في الديمقراطية والحداثة، حيث يعي المسلمون أن دور الدولة ليس هو رعاية الأرواح كي تَدخل الجنة، بل رعاية الحريات الدينية ضمانًا للسِّلم المدني، والتماسك الاجتماعي والسياسي.

يقول الله تعالى مخاطِبًا رسوله: "ولو شاءَ ربُّكَ لآمنَ مَن في الأرضِ كلُّهم جميعًا أفأنتَ تُكرِهُ الناسَ حتى يكونُوا مُؤمنِين" [يونس: 99]. فكيف نُكره مَن يَترك الإسلام، على أن يَبقى مُسلمًا؟ كيف نفعل ما نزَّهَ الله نفسَه ورسولَه عنه؟ أنكون أكثر إلهيَّةً من الله نفسه؟

أقول أيضًا لإخواني السَّلفيِّين: لا خير في دين يَقْبل القهر والإكراه، لأنه لا يَحصد إلَّا الكذب والنفاق والعنف! لا تَعْبدوا أسلافكم، ولا تُقدِّسوا آراء فقهائكم، وانفَتِحوا على العالم كما أراده الله! حرِّرُوا الله من أحقادكم، وأَحِبُّوا إخوانكم ولو اعتقدتم أنهم "كفروا"! حرِّرُوا الإسلام، ودَعُونا نتصالح مع الله. فإن الله ليس صنمًا تعبدونه، بل هو الروح التي تَشمل قلوب كلِّ المؤمنين في العالم! والله أعلم!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive