الرجوع

حرية المعتقد والواجب الصحافي

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٦/٢٨ |

هـ ١٤٣٨/١٠/٠٤

كنت أودّ أن أكتب عن السلام والرحمة وصفاء القلوب في منطقتنا العربية "ذات التنوع الديني والعرقي المذهل"، ونحن نحتفل بعيد الفطر بعد شهر من الصيام والقيام والتضرع إلى الله، لكن الحقيقة أن شهر رمضان هذا العام لم يكن أقل عدائية ودموية من بقية الأشهر، ولا أكثر رحمة وتراحمًا من رمضان العام الماضي.

تساءلتُ كيف سأكتب عن التعددية الدينية لأقنع الجمهور بأن التعايش هو سبيلنا الوحيد، وأنا أتابع أداء كبرى المؤسسات الإعلامية العربية وهي تحيد بشدة عن فكرة التعايش، وتمرر رسائل مليئة بالفتنة والشِّقاق؟

أين المصداقية والدقة والنزاهة - ولن أتحدث عن الحياد- في نقل الأخبار المتعلقة بالفئات الدينية؟ أين الدقة في التعليق على استهداف أماكن عبادة الشيعة، أو السنة، أو الكاثوليك، أو السيخ؟ أين التجرد حين يتعلق الأمر بخلاف سياسي إقليمي؟

يطالب الصحافيون في الأنظمة الديمقراطية بسقف غير محدود من حرية التعبير، لكن حرية التعبير ذاتها محل تناقض وانتهاك من قبل أهل المهنة.

هل يحترم الصحافي معتقدات الآخرين، أم أنه يصطف خلف صاحب المؤسسة حين يعادي فئة دينية ما؟

يتحمل الصحافي إضافة إلى مهمة الإخبار وتحرِّي الدقة في ما ينقله، مسؤولية أخلاقية جسيمة ولا سيَّما في الأزمات، فهو يلعب دور الوسيط بين ما يقع في مكان ما، وما تقوم به جهة ما والجمهور. الخبر حق أساسي، على الصحافي إيصاله بأمانه دون تشويه، والقاعدة الصحفية أن يفصل الصحافي بين الخبر والرأي، وألَّا يخلط بينهما. فالخبر هو الحدث- الواقعة: أمر حدَث بالفعل وليس من تخمين الصحافي، وهو ما يستدعي التحرِّي.

كتابة الرأي تختلف عن الخبر، لكن لها قواعدها أيضا. علينا أن نكتب الرأي بنزاهة، دون تشويه، ودون وَصْم جهة أو فئة. وهنا علينا أن نفصل بين الناشر ومالك النشرية، أو القناة والصحافي، حتى لا تتأثر صياغة الخبر بتوجه يصاغ خارج قاعات التحرير، وقد يشوه الحقيقة عن قصد أو دونه.

فكيف يتحول الصحافي من "ناقل للحقيقة"، إلى سبب في تأجيج الصراع الطائفي أو المذهبي؟

أين دور الصحافي في نشر ثقافة السلم الاجتماعي؟ ذلك السلم الذي يحقق أمن المجتمعات واستقرارها، ويحفظ لكل فرد كرامته، أليس للصحافي دور فيه؟ السلم الاجتماعي يتحقق بتحكيم صوت العقل، واحترام الاختلاف، والإقرار بالتنوع، وضمان حريات الأفراد (أقليات وأغلبية).

المنطقة العربية الثرية بالهويات والمذاهب والأعراق، شهدت على مر التاريخ صراعات مذهبية وعرقية، ونشهد منذ سنوات تجددًا للصراع على أساس ديني وعقائدي ومذهبي (سني شيعي تحديدًا)، ونعرات عنصرية لم تقتصر على ما يسمى بـ“السلوك الفردي”، بل رصدنا هذه العنصرية على ألسنة أسماء إعلامية، وفي نشرات إخبارية.

اقتتال، مغالبة، صراعات، إقصاء للآخر المختلف عن معايير الأغلبية، شيطنة لفئات دينية معينة في برامج حوارية، حتى شبكات التواصل الاجتماعي تحولت إلى شبكات لتمزيق العلاقات الاجتماعية حيث تطغى فيها لغة الصراع، لغة تُسيّر رأي الجمهور وحتى سلوكه.

شهدنا منذ ما يسمى بالربيع العربي، ظروف عمل استثنائية يعمل فيها الصحافي: نزاعات/ حروبًا / عمليات إرهابية.. وهو ما يُملي على الصحافي مزيدًا  من الواجبات: الدفاع عن الكرامة الإنسانية وحرية الأفراد، ونبذ العنف ولغة العنف، وعدم استخدام عبارات تتضمن صراحة أو خفية أي فتنة. هذا الالتزام هو من روح ميثاق شرف الصحافي، وقد يتطلب مزيدًا من التثبيت، بخلق هيئات قانونية تضم صحافيين وناشرين وجمعيات، تحرص على تقييم مدى التزام المؤسسات الصحافية باحترام حرية الاختلاف، والسلم الاجتماعي، وحقوق الأقليات.

فهل الاستفزاز يخدم حرية التعبير وحرية الصحافة؟ ما حدود التعبير في المطلق؟ هل أولوية الصحافة مهاجمة معتقدات الآخرين؟

هل نتسامح مع إعلامي مشهور يستخدم حسابه في تويتر للسخرية من معتقدات الآخرين؟ هل نسمح بالسخرية من فتاة بسبب حجابها، أو فتى بسبب صليبه، أو آخر بسبب طاقيته، بحجة "حرية التعبير"؟

التحديات التي تواجهها مهنة المتاعب، اتسعت واختلط فيها العقائدي بالأخلاقي والمهني.

كاريكاتير بسيط، قد يكون “أخطر” من ألف مقال حين يحطّ من فئة دينية ما. فالكاريكاتير افتتاحية تعكس وجهة نظر الناشر ورأيه، وهذا مثال بسيط على خطورة ما نكتب وننشر ونبث.

القوانين الديمقراطية تحمي الصحافة من تدخلات الدولة، لكن من يحمي الأقليات من اعتداءات الصحافة؟ من المقدس هنا: مهنة الصحافة؟ المؤسسة الإعلامية؟ أم صاحبها الذي يملي عليك خطًّا تحريريا غير أخلاقي؟ أم تُراه الجمهور؟

دعونا نراجع بجدية كل هذا لئلَّا نزيد في تفتت المنطقة العربية، والإساءة لمهنة عظيمة كالصحافة.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive