الرجوع

حِوار الأُخْوَة

الخميس

م ٢٠١٩/٠٢/٢٨ |

هـ ١٤٤٠/٠٦/٢٣

"يَحمل الإيمانُ المؤمنَ على أن يَرى في الآخر أخًا له". يَفتتح هذا الموقفُ نصَّ وثيقة "الأُخوّة الإنسانيّة"، التي وقّع عليها في 4 شباط/فبراير 2019 في أبو ظبي، شيخ الأزهر الشريف "أحمد الطيّب"، وقداسة البابا فرنسيس. يعطي هذا الموقف دفعًا جديدًا للحوار الديني، الذي أُصيب في الفترة الأخيرة بشيء من فقدان الثقة والمصداقيّة.

نال الحوار الديني نصيبه من الانتقادات، وبعضٌ منها كان مُحقًّا. ولعلّ أهمَّ انتقاد، ما يتعلّق بعدم فعَّاليّة اللقاءات الحوارية بين ممثِّلين لأديان مختلفة. فبعضهم يعتبر أنّ الحوار أصلًا مستحيل، بين أشخاص يتمسّكون بمعتقداتهم على أنها حقائق مطلَقة، وهي تختلف أو حتى تتعارض فيما بينها.

يَجمع هذا الموقفُ الراديكالي في سلبيَّته من الحوار، فئتَين من الناس. الفئة الأولى تنظر إلى الأديان -بسبب معتقداتها المطلَقة- كسبب دائم للخلاف ولضرب وَحْدة المجتمع، وتدَّعي أنَّ التطور والرُّقيّ يَكمن في تبنِّي النِّسبية من جميع الحقائق، ومنها الدينية. لذلك، تنسحب سخريَّة هؤلاء -وإن بشكل غير معلَن- على التديّن في حدّ ذاته، مُعتبِرينَه كنوع من التخلّف. والفئة الثانية، تلتقي عمليًّا مع الأولى بإيمانها بعدم جدوى الحوار، ولكنْ لأسباب نقيضة في موقفها من الدين. فهؤلاء يعُدّون أن الحقيقة واحدة لا تتجزّأ، وكلّ ما هو خارج عنها ضلال. لذلك، تصبح غاية الكلام مع المختلفين دينيًّا في أمور الدين، محصورة في دعوتهم إلى الاعتراف بضلالهم، واعتناق الدين الصحيح. ولهذا السبب، قد نجد أحيانًا استعمالًا لمصطلح الحوار، في مؤسَّسات أكاديمية أو مبادرات دينية. وهو في الحقيقة يعني المقارنة بين الدين الصحيح والأديان الأخرى؛ لتِبيان انحرافاتها، وتَعلُّم كيفية دعوة أتباعها إلى الهداية والخلاص.

للحوار أتباع ملتزمون له بصِدق، ولكنهم يقولون أيضًا بوجوب تجنُّب الحوار في المعتقدات، وحصْره في الشؤون الحياتية المرتبطة بتعزيز السلام والعيش معًا وكرامة الإنسان. في هذا الموقف شيء من الحكمة العمليّة، ولكنْ أيضًا شيء من الالتباس حول هدف الحوار. تعتقد هذه الفئة أن الحوار في أيِّ مسألة، يجب أن يُفضي إلى قناعة بحقيقة واحدة مشتركة. وهذا مستحيل في العقائد المختلفة بين الأديان. ولذلك، يتجنّبون الخوض فيه، للتأسيس على المشترَك الذي يرتبط بالقيم وشؤون الحياة العامة. يَكمن الخطأ هنا في جعْلِ هدف الحوار، هو الوصول دومًا إلى ما هو مشترَك، في حين يَكمن غِنَى الحوار –برأيي- في كَونه أيضًا مساحة لاكتشاف التمايز والاختلاف، حتى على مستوى المعتقدات، والتعرّف إليها من مصادرها ومعتنقيها، بهدف تطوير معرفة الأديان الأخرى، وإزالة الالتباسات والتحرّر من الأفكار المسبقة، التي غالبًا ما تسكن أذهان المؤمنين عن أصحاب الأديان الأخرى.

إنّ مَن تَحرّر من الخوف على إيمانه ومِن اعتبار الآخر تهديدًا له، قد يجد في التعرّف إلى معتقدات الآخرين وخبراتهم الروحية، مساحةً لاكتشاف سرّ الله العظيم، الذي يتخطّى حدود فهم البشر لأديانهم. وإن بعض تجارب الحوار الجريئة على المستوى الروحي، تجعل المؤمن أكثر عمقًا وحرية في اعتقاده الديني وممارسته له، ولا تُبعده عنه أو تُفقده ثقته به كما يخاف بعضهم، مع الاعتراف بأن هذا النوع من الخبرات الحوارية، يتطلّب من المؤمن نضوجًا روحيًّا ومعرفةً معمّقة لدينه.

قدّمَت وثيقة "الأُخوّة الإنسانية" بُعدًا جديدًا للحوار؛ ليس لكَونها نصًّا دينيًّا مشتركًا مُوقّعًا من قِبَل مرجِعيَّتَين روحيَّتَين من أعلى المستويات وحسب، ولكنْ أيضًا لأنّها ربطت مفهوم الوَحدة بالحياة البشرية، ومفهومَ التنوّع بالمشيئة الإلهية. فيقول نص الوثيقة بأن الإيمان بالله الخالق للكون ولجميع الناس، يجعلهم متساوين فيما بينهم برحمته، وهم إخوة في عائلة بشرية واحدة، مسؤولون بعضُهم عن بعض. أمّا الوثيقة، فتقول بأن التعدّدية والاختلاف -ومِن ضِمنِهما الاختلاف في الدين-: "حكمة لمشيئة إلهية، قد خَلق الله البشر عليها، وجعلها أصلًا ثابتًا تتفرّع عنه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف".

إذًا، وَفْقًا للوثيقة، ينطلق الحوار بين أتباع الأديان من قاعدتَين ثابتَتَين: الالتزام المبدئي للأُخوّة البشرية الشاملة، التي هي أصل لا يحُدّه اختلاف ديني أو فكري أو سياسي أو غيره، من ناحية، ومقاربة التعددية الدينية كتعبير عن مشيئة إلهية، تَمنع بذلك احتكار الحقيقة الدينية عند أيِّ فئة من الناس، من ناحية أخرى. بِناءً عليه، تُقدِّم هذه الوثيقة دفعًا جديدًا للحوار بين الأديان، وتدفع روّاد الحوار المخَضْرمين والراغبين في خوض غماره، إلى بناء تجاربهم الجديدة على قيمَتَي التضامن الإنساني كإخْوة في عائلة واحدة، وعلى الحرية "اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسةً"، كما يقول نص الوثيقة: "كاعتراف بقدسيّة العلاقة بين االله وكلِّ إنسان، والتي لا يمكن أن يكون فيها إكراه".

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive