الرجوع

غاندي وأخلاق الحوار بين الأديان

الثلاثاء

م ٢٠١٩/١٠/٢٢ |

هـ ١٤٤١/٠٢/٢٣

في الثَّاني من تشرين الأوَّل/أكتوبر، جرى الاحتفال بمرور قرن ونصف على ميلاد المهاتما غاندي، مُلهم فكرة اللَّاعنف الجذريِّ في العصر الحديث. بهذه المناسبة، بحثتُ في تراث المهاتما عمَّا يمكن أن ينير سبيلنا في طريق الحوار بين الأديان، فوجدتُ رسالة هامَّة، كتَبها ردًّا على صديق مُسْلم سأله عن رأيه في الإسلام، ثم نشر الرِّسالة في صحيفة "هاريجان" باللُّغة الغوجراتيّة (اللُّغة الأمّ للمهاتما)، يوم 13 آذار/مارس 1937، ثمَّ تُرجم النَّصُّ إلى الإنجليزيّة ضمْن الأعمال الكاملة الَّتي تَبلغ المائة مجلَّد، وتحديدًا في المجلَّد الرّابع والسِّتِّين، الَّذي يضمُّ مُراسلاتِه. تتألَّف الرِّسالة من ثلاث صفحات. وما يهمُّنا منها هو الفقرة الأخيرة، أُترجِمها هنا إلى العربيَّة لأهمِّيَّتها: "لم أقُلْ في أيِّ مكان إنَّني أؤمن حرفيًّا بكلِّ كلمة وردت في القرآن، أو في أيِّ كتاب مقدّس في العالم، إلَّا أنَّني لست مَعنيًّا بانتقاد النُّصوص المقدَّسة للدِّيانات الأخرى أو إظهار عيوبها. في حين لي الشَّرف، بل ينبغي، أن أدعو إلى الحقائق الَّتي يمكن أن توجد في تلك النُّصوص وأطبِّقها. فلا يمكنني أن أنتقد أو أَدِين أشياء في القرآن أو سيرة النَّبيِّ لا أستطيع فهمها. ولكنَّني أرحِّب بكلِّ فرصة يمكنني أن أعبِّر فيها عن إعجابي بالجوانب الَّتي استطعت تقديرها وفهمها من حياة النَّبيِّ. أمَّا بالنِّسبة إلى المسائل الَّتي تُمثّل صعوبة بالنسبة إلَيَّ، فأكون سعيدًا أن أراها من خلال عيون أصدقائي المسلمين الأتقياء، محاولًا فهمها من خلال كتابات كبار علماء الإسلام. من خلال هذه المقاربة فقط، الَّتي تحترم الأديان الأخرى، يمكنني أن أحقِّق مبدأ المساواة بين الأديان. ولكن من حقِّي وواجبي معًا أن أُبْرز عيوب الهندوسيَّة من أجل تنقيتها والاحتفاظ بها نقيَّة. ولكن، عندما يقوم غير الهندوس بنقد الهندوسيَّة وتصنيف عيوبها، فإنَّهم لا يَكشفون إلَّا عن جهلهم بالهندوسيَّة، وعدم قدرتهم على النَّظر إليها من خلال وجهة النَّظر الهندوسيَّة؛ ما يُغبِّش الرُّؤية ويُفسد الحكم. فتجربتي مع الانتقادات غير الهندوسيَّة للهندوسيَّة أظهرت لي حدودي، وعلّمتني أن أَحْذر من الاندفاع في انتقاد الإسلام أو المسيحيَّة ومؤسِّسيهما". هذا النَّصُّ -على قِصَره- يحتوي على مبادئ منهجيَّة أساسيَّة في الحوار بين الأديان، والَّتي يمكن تلخيصها في النِّقاط الآتية: 1. الأولويَّة لـ"تعظيم المشترَك"، بتعبير الأمير الحسن بن طلال. ويدعو المهاتما إلى تفعيل تلك الحقائق والقيم المشتركة في الحياة. وذلك مصداق قول النَّبيِّ محمَّد (ص): "الحكمة ضالَّة المؤمن، فحيثُ وجَدَها فهو أحقُّ بها". 2. عند وجود أشياء مستعصية عن الفهم في دِين الآخر، نسأل أعلم النَّاس من أهل ذلك الدِّين، حتَّى نفهم الأمور بعيونهم. فلا نكتفي بالنَّظرة الخارجيَّة النَّاقدة بجهل، لأنَّها بعيدة عن المنطق الدَّاخليِّ والنَّظرة الكلِّيَّة لإيمان الآخر. كما لا نسأل الجهلة والغوغائيِّين والمتعصِّبين، لكي نؤكّد ما نحمله من أحكام مقدَّمة. 3. إنْ كان لا بد من نقد، فنبدأ بنقد أنفسنا أوَّلًا. فهو حقُّنا وواجبنا معًا -كما يقول غاندي-. وهذا هو مبدأ المساواة والعدالة في التَّعامل مع الآخر الدِّينيِّ. فالخُصَماء الجِداليُّون كثيرًا ما يتساهلون مع عيوبهم ويبرِّرونها، ويضخِّمون عيوب الآخرين وأخطاءهم، بل لا يرون فيهم إلَّا العيوب. الحوار هو العكس من ذلك تمامًا، إنَّه بحثٌ مُسالم لأجل الفهم والحقيقة. هذه المبادئ الَّتي ذكَرها المهاتما غاندي بطريقة عفويَّة وفي رسالة شخصيَّة، لهي من الأسس الأخلاقيَّة للحوار بين الأديان. وهي تُعتبر جزءًا لا يتجزَّأ من تطبيق المبدأ الشَّامل لِلَّاعنف. فالجدال الدِّينيّ نوع من أنواع العنف، عنف الاستعلاء والاحتقار وتضخيم عيوب الآخرين، لرفع عقيرة الأنا وتمجيد الذَّات. هذا الغذاء الدَّسم للأنانيَّة والنَّحنيَّة، سرعان ما يتحوَّل من عنف لفظيٍّ مُتَعالم إلى عنف عمليٍّ، في شكل حروب وفتن وسدود معرفيَّة ونفسيَّة بين أبناء الشَّعب الواحد أو بين الشُّعوب المتجاورة. الحوار هو نزْعٌ لسلاح العنف والتَّنابز والتَّنافر بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة، وسحبٌ للبساط من تحت لاهوتات الحرب والكراهية بين الناس. فالعلاقة بين اللَّاعنف والحوار الدِّينيِّ علاقة عضويَّة؛ إذ الحوار يَدخل ضمْن إطار اللَّاعنف الثَّقافيّ، وهو شرط أساسيٌّ قبل الوصول إلى اللَّاعنف السِّياسيّ والاجتماعيّ. غاندي -معلّم اللَّاعنف- يعلّمنا أيضًا كيف نتحاور، ويحترم بعضنا بعضًا. فما أحوج الهند وما جاورها والعالم كلَّه، إلى مثل هذه المبادئ القابلة للتَّطبيق في الحياة اليوميَّة، وليس فقط في الجلسات الرسميَّة في قصور الحوار ومؤسَّساته.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive