الرجوع

غرِّد لأعرف من أنت 

الإثنين

م ٢٠١٧/١١/٠٦ |

هـ ١٤٣٩/٠٢/١٧

 تتعايش على مواقع التواصل الاجتماعي (وعن غير قصد)، حسابات وصفحات التنظيمات الإرهابية، والناطقين باسمها، ومُتبنِّي الأفكار المتطرفة، وأيضًا مناهضِي التطرّف، والمدافعين عن حق الاختلاف والتعددية. جنْبًا إلى جنب يعيش جميع هؤلاء، محاولين كُلٌّ على طريقته، النفاذ بطريقة تفكيره وأيديولوجيته نحو الجمهور.

التطرّف، أي العزلة الموغلة في الذاتية والسلبية ونبذ الآخر، تبحث (وَيَا للمفارقة) عن ذلك الآخر المختلف عنها، والذي تمقته وتستبيح دمه؛ لتستأصله، لتمنعه عن التعبير، لتكفرّه تارةً، ولتحرِّض ضده تارةً أخرى.

كيف تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى فضاء لفرض الرأي بالقوة؟ وكيف يجري استغلال حرية التعبير لمصادرة رأي يعبر عن الحق في الاختلاف، أو لِفرض "رأي" آخر لا يعترف بأي اختلاف؟!

قبل سبع سنوات لجأ شباب مناهض لنظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، إلى مواقع التواصل (فيسبوك، وتويتر)؛ لنقل وقائع انتفاضة المقهورين في مناطق مختلفة من تونس، وإزاء صمت الإعلام التونسي عمّا كان يحدث، جاهر هؤلاء الشباب بالحقيقة أمام العالم: انتفاضة شعبية ضد النظام. انتشرت التقارير الصوتية والمرئية تحت وسمٍ غَدَا حديثَ العالم: #SIDIBOUZID، تَحوّل بعدها (لفترة ما) إلى قرين للحرية. لكن، سرعان ما تغيرت الصورة، فظهرت رسائل سلبية على ذات الوسم تسعى إلى تغيير توجهات المجتمع وقيمه وسلوكه وأفكاره، بفرض لون واحد من التفكير: العنف، الكراهية، العنصرية.

انتقل الترويج للفكر المتطرف من عصر الحشد الجماهيري بخُطب تحريضية وتكفيرية مسجلة على الكاسيت، إلى تبادل مقاطع الذبح وخطابات التكفير والتحريض والتجنيد على الإنترنت. الإرهاب الفكري لَبِس عباءة الإرهاب الإلكتروني مثل طاقية الإخفاء؛ حتى يتوغل في صفوف الشباب بلغة الشباب، وباستخدام أساليبهم في التواصل.

بينما كنتُ أكتب هذا المقال في مقهى شعبي في تونس، أتى نبأ مقتل رائد شرطة، طعنه تكفيري قبل يوم واحد قرب مجلس النواب أمام الملأ، عندما كان الفقيد ينظم حركة المرور صباحًا. القاتل شاب من مواليد 1992 بعيد عن الصور المنمطة للمتطرفين، حليق اللحية، بسروال جينز، لا سوابق له وغير معروف من قبل الشرطة، اعترف بأنه تبنى الفكر التكفيري عبر الإنترنت قبل ثلاث سنوات.

كيف تحول الإنترنت إلى سلطة على العقل، وعلى السلوكَين الفردي والجماعي؟ كيف نجح المحتوى الرقمي في دحر سلطات المدرسة والمكتبة والأهل، بل ورقابة الدولة؟

ظهر في الغرب في الأعوام الأخيرة مصطلح "الأمن الفكري"، والمقصود به التصدي للأفكار المتطرفة التي تزخر بها مواقع التواصل. تَنبَّهَ الغرب (بعد فترة من التجاهل) على أن تكرار تلك الأفكار وتداولها من قبل فئة معينة، سيجعل الشباب يعتقدون أنها من المسلّمات وأنها الصواب بعينه.

كُفَّار، كافر، كافرة، مرتد، زنديق، زنديقة، أيتام العلمانية، أحفاد فرنسا.. إلخ، كلمات يستخدمها بعض المغردين عبر تويتر ردًّا على تغريدات آخرين، فيها تكفير في أغلب الأحيان، وهي أيسر طريقة لقطع الطريق أمام شخص حتى لا يُعبِّر. أنت لا تختلف معه فقط، بل تنزله منزلة الكافر، هكذا ببساطة.

التطرّف ليس وليد البيئة العربية الإسلامية فقط، فكثيرة هي المواقع الإلكترونية التابعة للقاعدة والتنظيمات الإرهابية الأخرى، وموجودة في الولايات المتحدة، وفي دول غربية أخرى.

إن استغلال مواقع التواصل كحاضنة للتنظيمات الإرهابية، يتفاقم لوجود تفاعل حقيقي بين هذه التنظيمات وفئة معينة من الجمهور. فكم حسابٍ على تويتر يمجد العمليات الإرهابية فور وقوعها! وكم شخصية حقيقية تُسارع إلى التعبير عن تعاطفها مع منفذ عملية دهس هنا وعملية تفجير هناك! كلما أُقفل حساب يمجد الإرهاب، فُتح اثنان عوضًا عنه؛ ما يجعل عملية التصدي لنشر الفكر المتطرف على مواقع التواصل عملية صعبة.

الخطاب التكفيري خرج من مرحلته التقليدية إلى مرحلته الحركية/التجنيدية، التي ما عادت تقتصر على الفضاء الجغرافي للبحث عن أتباع، بل تزدهر بوجود مواقع تواصل حيث التفاعل أكبر، ووجود فئات هشة أكثر؛ وهذا ما يسهل عملية تجنيد المتطرفين، والتأثير في شباب ما زال يبحث عن نفسه. تلك اللغة العاطفية المشحونة لا بالحب، بل بالكراهية المتقدة حماسة للفتك بالآخر، تجد طريقها بسلاسة عبر تويتر وفيسبوك، تعزف على وتر التهميش وتَعِد المحبَطين بالجنة في الآخرة كتعويض عن الجحيم الذي عاشوه، أو عاشه غيرهم في الحروب والزنزانات وتحت الاحتلال.

كيف نواجه خطاب الكراهية في مواقع التواصل؟ هل اللغة المشحونة بالمحبة تكفي لاحتواء شخص قابل لتفجير نفسه؟ هل خطاب الهدوء والرصانة قادر على وقف خطاب يلوح بسكين جاهزة لقطع رأس كافر مزعوم؟

لم نجد الإجابة بعد، لكننا قطعًا لن نتوقف عن محاولة التصدي لصوت التطرّف العالي.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive