الرجوع

فضيلة التوقُّف والبحث عن إجابات جديدة

الثلاثاء

م ٢٠١٨/١٢/١١ |

هـ ١٤٤٠/٠٤/٠٣

التوقف عن إصدار الأحكام فيما لا يستبين للإنسان الحقُّ فيه، يُمثِّل فضيلة معرفية تنبع من حالة صدق مع الذات، وهذا خلاف للزعم بامتلاك المعرفة الكاملة، الذي يورث الجمود والغرور، كما يورث ركود الماء فساده. فالتوقف عند الباحثين المنصفين يعكس تواضعهم، ويُبقي أبواب البحث وإعادة النظر مُشرعة أمامهم. وهذا ما نجده في قول ابْن الْمُبَارَكِ: "لا يزالُ المرءُ عالمًا ما طلبَ العِلمَ، فإِذا ظنَّ أنَّهُ قَد علِمَ، فقَد جهلَ". وهذا يعني أن القول بكمال معرفة الإنسان، هو جهل بطبيعة الإنسان أولًا، ثم هو جهل بطبيعة المعرفة الإنسانية ثانيًا. فالبحث عن أكمل المعارف هو مسيرة لا نهاية لها، سواءٌ أفي المعارف الدينية كان ذلك، أم في الدنيوية.

لا بد للمعرفة أن تكون على قدر الوُسع البشري، حتى تكون معقولة ومنتجة. والوسع البشري محدود ومتغير. ولذلك، نجد القرآن يعلِّل إعراض غير المؤمنين عن دعوة الرسل، بأنه يعُود إلى مقدار عِلمهم، ومحدودية وُسعهم على إدراك ما جاءهم من العلم: {ذلكَ مبلغهُم منَ العلمِ إِنَّ ربَّكَ هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيلهِ وهُو أعلم بمن اهتدىٰ} [النجم: 30]. فالله وحده هو القادر على عِلم حال مَن ضلّ وكان في مقدوره بلوغ الحق، وهو كذلك وحده القادر على عِلم حال من اهتدى، وهو مدرك وعالم بما جاءه من الحقّ.

التوقف هو حالة مُثلى ينطلق منها العقل العلمي، للإجابة عن الأسئلة الجديدة. وباعتبار أننا نعيش العصر الذهبي للمعرفة البشرية، فإننا مطالبون بأن نكون أكثر تريُّثًا في إصدار الأحكام، وأكثر دقة في استخلاص النتائج. إنّ الحُكم على معتقدات الآخرين بالزَّيف والبطلان، قبل التعمق فيها والكشف عن أقوى مَقُولاتها، يمثِّل مشكلة شائعة بين كثير من أتباع الأديان. فالاندفاع نحو إصدار الأحكام على المخالفين في الاعتقاد، لا يقع فيه مَن اختبر التجربة الدينية وسبَر عمق غورها. وعلى هذا، فإن التوقف في الحُكم على الناس بالكفر، هو سمة لفحول العلماء كما يقول القرطبي: "باب التكفير باب خطير، أقدَمَ عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقَّف فيه الفحول فسلِموا".

إن البحث عن البرهان هو فضيلة في حدِّ ذاته مَهْما كانت النتيجة، حسب ما يدل على ذلك قوله تعالى: {قل هاتُوا بُرهانَكُم إِن كنتُم صادقينَ} [البقرة: 111]. ولا تقتصر المطالبة بالبرهان على "أهل الكتاب"، وإنما تشمل أتباع العقائد جميعهم على اختلاف أسمائهم.

هناك فرق دقيق بين مصطلحَين: الأول هو "تكافؤ الأدلّة"، والذي يعني عدم قدرة العقل على الترجيح في بعض القضايا الدينية. والثاني "اللاأَدْرِيّة" التي تعني الشك المطلق في إمكانية الحقيقة. ويمكن لنا أن نجد المعنيَين في سياق التجربة الدينية الإسلامية. فالمِثال الأول هو الإمام الأشعري، الذي ذكر تجربته مع "تكافؤ الادلة" في خطبته الشهيرة في جامع البصرة، والتي أعلن فيها خروجه عن مذهب المعتزلة: "نظرتُ فتكافأتْ عندي الأدلة، ولم يترجح عندي حقٌّ على باطل، ولا باطل على حقّ، فاستهديتُ الله تبارك وتعالى فهداني". والمثال الثاني يتمثل بتجربة حجة الإسلام الغزالي، وسعيه لبلوغ الحقيقة الدينية، وما اختبره من شعور بنفي الحقائق "السفسطة"، في كتابه "المنقذ من الضلال"، حيث يقول: "أعضلَ الداءُ، ودام قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال...".

كيف يكون التوقف في المسائل الفقهية فضيلة، ولا يكون كذلك في التصورات العَقَدِية؟! إن العبرة هي في بذل الوُسع والاجتهاد مهْما كان مجال البحث أو نتيجته. وهذا ما قاله أبو الحسن العنبري، وهو من فقهاء البصرة في القرن الرابع الهجري: "كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعًا". وهنا، أشير الى قولٍ هو من أكثر الأقوال جرأة في تاريخنا الإسلامي، وهو قول الجاحظ بأن: "مخالف ملّة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحقّ، فهو معذور غير آثم". وهذا يعني أنَّ لكلِّ مجتهد نصيبًا، وأنَّ كلَّ من يسعى إلى معرفة الحقيقة، هو من أهلها، وإن لم يَبْلغها.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive