الرجوع

في رحابة الذات الإلهية وفي قدسية الحرية الإنسانية

الإثنين

م ٢٠١٨/١١/٢٦ |

هـ ١٤٤٠/٠٣/١٨

منذ بضعة أسابيع أثارت صفحة في أحد المقرَّرات الدراسية في المغرب، جدلًا ونقاشًا على العديد من المواقع الاجتماعية. نقرأ في صفحة النص الأدبي أن: "الإله الصغير أخذ ورقة وألوانًا وبدأ في خَلْق العالم". فاعتبر الكثير من المشاركين في النقاش أنّ ذلك مَسٌّ خطير للذات الإلهية وللإسلام، وطالبوا بمنع الكتاب.

أُثيرت في السنوات الأخيرة العشراتُ من القضايا في ميدان الأدب والفن، تتعلَّق بما يسمَّى "مسُّ الذات الإلهية". في العمق، تَطرح هذه القضايا مسألةَ الحدود القانونية، التي تَفرضها تصوراتنا النسبية عن الله. وبذلك، تَحوَّل بعضُ الجماعات والمؤسسات الدينية إلى مؤسسات رَقابة تدَّعي امتلاك الحقيقة بشأن الدين، وتسعى للسيطرة عليه بِاسْم الدفاع عن الذات الإلهية.

كانت تهمة "مَسُّ الذات الإلهية" -ولا تزال- ذريعةً جِدَّ فعَّالة، لمتابعة المفكرين والفنانين. فقد جرى منع رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، بسبب تلك التهمة وتجسيدها في شخصية "جبلاوى". وفي سنة 2012 جرت محاكمة قناة "نسمة" بعد عرضها للفيلم الكرتوني "برسيبوليس"، الذي يتضمن مشهدًا يَظهر فيه رجل عجوز مُلتحٍ، فُسِّر على أنه تجسيد لله ومَسٌّ للذات الإلهية. وفي سنة 2016 تعرَّض الكاتب الأردني ناهض حتر للاغتيال، بعد أن جرَت إدانته بهذه التُّهمة، لنشره رسمًا كاريكاتوريًّا بعنوان "رب الدواعش".

ماذا تعني فكرة مسِّ الذات الإلهية، بالنسبة إلَيَّ كمسلم؟ مع أن التجديف اعتُبر منذ القديم جريمة خطيرة يَستحقُّ فاعلُها عقوبة الموت، إلّا أني أعتقد أن مسَّ الذات الإلهية فكرة متهافتة (ضعيفة خاطئة)؛ إذ لا يمكن مَسُّ هذه الذات المقدّسة، لأنها تتجاوز كلَّ مَداركنا، كما تتجاوز كلَّ ما يمكن أن نقوله بشأن الله أو الدين. وكان الشيخ عبد الرحمن وحيد رئيس إندونيسيا الأسبق، قد نشر مقالًا بعنوان "الله ليس بحاجة إلى دفاع من أحد"، وذلك بعد انتشار الرسوم المسيئة للنبي محمد عام 2006، مؤكِّدًا أن الله وإرادته المطلقة، تجعل فكرة الدفاع عنه غير مقبولة على الإطلاق.

إن موضوع كلِّ الحالات التي جرى اعتبارها مَسًّا للذات الإلهية، هو تصوير الإله حسب ما يتخيّله البشر، أي الإله الأرضي. إن الله المجسَّد في فيلم برسيبوليس، ليس إلَّا صورة يحاول من خلالها البشر إدراك المطلَق، في حين أن موضوع كاريكاتير "ناهض" لم يكن هو الذات الإلهية، بل هو الإله الذي يتخيَّله ويصنعه الإنسان المتطرِّف أو الإرهابي.

في حقيقة الأمر، أن تهمة مَسِّ الذات الإلهية هي صناعة فقهية وسياسية، عقيدة يجري استعمالها للهيمنة، وقمع المخالفين، ولتكريس ثقافة المنع والعنف الرمزي أو المادي، كما كان الأمر في مأساة الحلَّاج شهيد التصوُّف. وفي أحيان كثيرة يخلط بعض البشر بين الله "الذي ليس كمثله شيء"، والأوثان التي يصنعونها، فيُسقطون على الله حقدهم وأنانيتهم .ألم يقتل الإرهابي ضحيته "ناهض حتر"، وهو واثق بأن الله معه ويبارك فعله؟! ألا يعتقد المسلم البسيط أن إلهه لن ينقذ إلّا المسلمين ويَحكم على باقي البشرية بالجحيم؟ ألا يتباهى أحيانًا أشخاص من السنة والشيعة، كما المعتزلة والمتصوفة، بأنهم يمتلكون الصورة الصافية عن الله وكلامه، بل حتى نواياه؟

ما أحوجَنا جميعا إلى أن نتحرر من الآلهة الزائفة في قلوبنا وعقولنا! ولا شك أن مسؤولية الفكر الديني المُتنوِّر، هي أن يجعلنا أكثر تواضعًا، ويعلِّمنا أن طريقة تصويرنا أو فهمنا للذات الإلهية نسبيَّة، وأن المطلق الوحيد هو الله نفسه. وأيضًا يعلِّمنا أن التفكير هو البحث الدائم عن الله الحقِّ ضد الآلهة الزائفة. لذا، فهو فريضة يحثُّ القرآن عليها، وطبيعةٌ بشرية لا يمكن الحَجْر عليها.

لمّا خلَق الله الإنسانَ على صورته، ولمّا كان الإنسان -كما يقول مولانا جلال الدين الرومي-: "مخطوطة رسالة إلهية"؛ فإني أعتقد أن أكبر مسٍّ للذات الإلهية، هو مسُّ حريّةِ الإنسان وكرامتِه، ومَسُّ حريته في التفكير. يقول الله في حديث قدسي: "أمَا عَلِمْتَ أنه اسْتَطْعَمَك عبدي فُلانٌ، فلَمْ تُطْعِمه؟ أمَا عَلِمْتَ أنك لو أطعَمْتَه لَوَجَدْتَ ذلك عندي؟". ألا يعنى ذلك أننا يجب أن نُحوِّل نظرية الذات الإلهية، إلى حضور للرحمة الإلهية، من خلال الممارسة الخيرية، بدل أن نجعل الله سببًا إضافيًّا لمعاناة العالم؟

أقول للدول التي ترغب في حمايةِ قُدْسيَّةِ الذات الإلهية: إنكم أَوْلَى بأن تَحْمُوا قُدْسيّة الذات الإنسانية، لتحرير الإنسان ممّا يَحرِمُه إنسانيَّتَه. والله أعلم.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive