الرجوع

في عيد الميلاد اليوم.. كن أنت الملاك!

الأحد

م ٢٠١٧/١٢/٢٤ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٠٦

 

الليلة هي ليلة عيد الميلاد، يحتفل بها أكثر من مليار مسيحي حول العالم، عيد ميلاد السيد المسيح في بيت لحم بفلسطين. فبحسب الرواية الإنجيلية والتقليد الكنسي، قامت العائلة المقدسة المكوّنة من القديس يوسف ومريم العذراء والمسيح في أحشائها، بمغادرة بيتها في الناصرة باتجاه بيت لحم، لتنفيذ أمرِ الإحصاء السُّكّاني الصادر عن الإمبراطور الروماني أوغسطس قيصر. وبسبب عدم توافر مكان في الفندق؛ لجأ الزوجان إلى إسطبل ملحق به حيث وَلدت العذراء ابنها.

زار الطفلَ الوليدَ وأهلَه رعاةٌ كانوا يسهرون على قطعانهم في برِّيّة مجاورة، بعد أن بشَّرهم الملائكة بحدث الميلاد، وأيضًا أتى ثلاثة من مجوس الشرق حاملين هداياهم للمسيح، وكثيرًا ما صُوِّر هؤلاء الزوار في الأيقونات المسيحية والتقليد الكنسي على أنهم من أصحاب البشرة الداكنة اللون، ومن ملوك قومهم.

تنوُّعٌ غنيٌّ يحتضنه مشهد الميلاد هذا، إثنيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا: رعاة محليون مع ملوك من الشرق، يهود ومجوس، وحتى الملائكة كانوا حاضرين في سماء الحدث، والحيوانات في مكانه.

بعد مدة قصيرة، في أول حدث بعد هذا المشهد، تضطر العائلة المقدسة إلى الهرب لاجئة نحو مصر، هربًا من الملك هيرودس الذي كان يريد قتل الطفل الوليد، متوجسًا من نُبوءة تقول بأنه الملك المقبل. ولمَّا لم يهتدِ إلى مكان الطفل، قام -بحسب الرواية الإنجيلية- بقتل كل أطفال بيت لحم وتخومها من ابن سنتين فما دون!

ما أشبه الأمس باليوم، طغاة ومصالح وحروب ومجازر، حوّلت ملايين البشر لاجئين معذبين، في سوريا وفلسطين والعراق واليمن وميانمار وغيرها. بالأمس كنا خارج هذا المشهد بالكامل، نعيّد عيد الميلاد، وعِظات الكهنة تُذكِّر ببُعد الفقر في حدث الولادة، كبعد رئيسي يمس ما نراه مشهدًا واقعيًّا مماثلًا في مجتمعنا، فيتحول العيد إلى مناسبة للتضامن مع الفقراء ومد يد العون إليهم.

أما اليوم وبعد أكثر من ألفي سنة، فقد صرنا أكثر قربًا من المشهد الميلادي. شرائح كبيرة من شعوبنا صارت أشبه بأشخاص مشهد الميلاد في أبعادٍ كثيرة: لاجئين مبعدين عن منازلنا، فقراء نكاد لا نملك سقفًا يدفع البرد عنا، هاربين من "هيرودس" المتعددة أشكاله وأسماؤه، نتشارك في مأساتنا مع شعوب وأثنيات وأديان أخرى.

لا أحسد كاهن الكنيسة في قداس ليلة العيد، المناسبة مناسبة مفرحة، لكن بماذا سيشبّه حدثَ الميلاد في عظته بعد أن كان الفقير وحده هو المثال؟ فما أشبه الطفلَ الوليد في مِزْوَد بطفل سوري يولد تحت سقف خيمة لا تصدُّ ولا تحمي، وما أشبه العائلة الهاربة بعائلة من الروهينغا تهرب من اضطهاد يلاحقها... وأيضًا وأيضًا في فلسطين اليوم، واليمن المعذب، والعراق الجريح.

كنا نقضي فترة العيد أطفالًا على وقع كلمات التراتيل الدينية وألحانها، وأغاني فيروز الميلادية شكلت دومًا جزءًا أساسيًّا من ذاكرة العيد، ومن هذه الأغاني ما تزال أغنيتان ترنان في أذني كل عيد ميلاد رغم تعاقب السنين ومرور الزمن. تقول الأولى: "تذكر يا حبيبي الليل وسهر البيوت، بيروت بيروت بيروت... بيروت زعلانة كتير". غنتها فيروز في كنيسة لندنية خلال فترة الحرب اللبنانية حيث كان ألمُ بيروت شديدًا، واليوم أتذكَّر الأغنية مدركًا أن "الزعل" صار رفيق مُدننا من حلب إلى صنعاء، ومن القدس إلى بغداد.

أما الأغنية الثانية التي تبدأ بلحن غيتار ساحر، فتقول: "روح زورهُنْ ببيتهن، بيتهن فقير، ما عندن شي.. روح زورهن ببيتهن قِلُّنْ وُلد يسوع!". تبدو أغنية الطفولة هذه، حَلِّي المؤقت البسيط لقتامة الصورة التي تسود مشهد بلادنا هذه الأيام. فمَهْما كان انتماؤنا الإثني أو الديني، فلن يصعب علينا في مناسبة عيد الميلاد أو غيره، أن نكون كالملاك الذي بشّر بولادة المسيح، فنَدخل بتواضع بيت عائلة معذبة في بلدنا، فقيرة أو لاجئة أو مضطهدة، دون اهتمام بالوجهة التي أتت منها، أو بماذا تدين وتعتقد، لنكون يدًا من أيدي الله التي توصل محبته ورحمته وحنانه، فيتكرر مشهد الميلاد ليس فقط في مجسمات مغارات تحت شجرة العيد، بل في مئات المنازل أو ألوفها، على امتداد أوطاننا المتعبة.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive