الرجوع

قضيّة “آسيا بيبي”: الدفاع عن النبي يكون بالاقتداء به

الإثنين

م ٢٠١٨/١١/١٩ |

هـ ١٤٤٠/٠٣/١١

الحُكم ببراءة "آسيا بيبي" من تهمة شتم النبي محمد (ص)، وهي تهمة عقوبتها الإعدام في باكستان، يمثّل خبرًا سارًّا، كتتويج لجهود المتضامنين معها والمدافعين عنها. ولكنه يظلّ في الوقت نفسه انتصارًا منقوصًا، ما دام القانون الذي حوكمَت وَفْقه ساري النفاذ. إنّ حالة هذه السيدة المسيحية من الحالات القليلة التي وصلت إلى القضاء ليَبُتّ فيها، في حين شهدَت السنواتُ الأخيرة العشراتِ من حالات القتل الغوغائي، لأشخاص راجت حولهم إشاعات بأنهم تلفّظوا بألفاظ مسيئة للنبي؛ وذلك من دون المرور عبر القنوات القضائية، في عمليات انتقامية هوجاء، كثيرًا ما تحرِّكها أغراض خفيَّة وصراعات شخصية.

ما زاد المسألةَ تعقيدًا، أن هذا القانون الجائر بات جزءًا من اللعبة السياسية، تستخدمه بعض الأحزاب الدينية المتطرّفة لتجييش العواطف وكسب الأصوات، متظاهرةً بالغَيرة على الدين والمقدّسات. وقد تضخّمت هذه الظاهرة، إلى درجة أن الأحزاب الحاكمة لم تَعُد تَجرؤ على مجرّد الإعراب عن النية لإلغاء القانون. وعندما تجرَّأ حاكم إقليم البنجاب "سلمان تأثير" على المطالبة بإلغاء القانون، قام باغتياله حارسه الشخصي. والغريب أن قبر هذا المجرم بات مزارًا، وكأنّه بطل أو شهيد!

بعد إعلان البراءة، تَظاهر الآلاف في مختلف المدن الباكستانية احتجاجًا على الحكم، مطالبين بإعدام آسيا بيبي، التي أُفرج عنها، ونُقلت إلى مكان مجهول حفاظًا على حياتها. وقد اضطُرَّ محاميها المسلم إلى مغادرة البلاد، بسبب تهديدات تلقاها بالقتل. وقبل ذلك، اضطُرَّت عائلتها إلى النزوح خارج البلاد. كلُّ هذه الأحداث يَصعب فهمها منطقيًّا. فالقانون لا يزال قائمًا، وقد حكم القضاء ببراءة المتَّهمة مما نُسب إليها زُورًا وبهتانًا، وقد قضت تسع سنوات في السجن في انتظار الحكم. وهو ثمن باهظ جدًّا لامرأة بريئة، حُرِمَت عائلتَها طَوال هذه المدة. فلماذا كلُّ هذا الإصرار على القتل؟

هذه القصة المحزنة هي مثال على قدرة الجهل والتعصّب، على قلب الموازين العقلية والإنسانية، بل والمعايير الدينية نفسها. فهل هذا يُرضي نبيَّنا؟ هل هذا هو ما يريده منَّا؟ يَذكُر لنا القرآن الكريم بعض الشتائم، التي تَعرّض لها النبي أثناء تبليغه للدعوة، إذْ قالوا عنه: "ساحر"، "مجنون"، "كذّاب"، "كاهن"، "شاعر"، "أُذُن" (كثير الاستماع والتصديق لما يُقال له)... ولم يَصدُر عن النبي أيُّ ردِّ فِعل فيه غضب لنفسه أو لسُمعته، بل كان يردُّ على الإساءة بالإحسان؛ لأن غايته كانت الإنسان وليس الانتصار لنفسه أو كرامته الشخصية. بل إن تلك المعاملة الحسنة كانت سببًا في إسلام بعض مَن كانوا يسيئون إليه. فلانَت القلوب بعد القسوة والإساءة.

مِن النصائح القرآنية في الرد على حملات الشتم والتشويه، عدم الخوض في تلك المعارك الوهمية، التي يُقصد بها غالبًا خلق أجواء من التوتُّر، تَدفع الناس إلى التهور والعنف. فالمؤمن كَيِّس فَطِن، لا يقع في الشباك بسهولة، ولا يُستدرَج ولا يُستفَزّ. قال الله تعالى: {وقَد نزَّل عليكُم في الكتَاب أن إذَا سمِعتُم آياتِ اللَّهِ يُكفرُ بهَا وَيُستَهزأُ بها فلَا تقعُدُوا معَهُم حتَّى يخُوضُوا في حديثٍ غيرهِ إنَّكم إذًا مثلهم إنَّ اللَّه جامعُ المُنافقين والكافرينَ في جهنَّم جميعًا} [النساء: 140]. فالمطلوب هو مغادرة المجلس وعدم المشاركة في الإثم، وليس الرد بالعنف والقتل. والجواب على الجهالة يكون بالسلام، لا بجهالةٍ مِثلها: {وعبادُ الرَّحمن الَّذين يمشونَ على الأَرضِ هونًا وإذا خاطبهمُ الجاهلونَ قالُوا سلامًا} [الفرقان: 63]. وأيضًا يَنهى الله عن السبِّ بدءًا أو ردًّا: {ولا تسبُّوا الَّذينَ يدعونَ من دون اللَّه فيسبُّوا اللَّهَ عدوًا بغيرِ علمٍ} [الأنعام: 108].

إننا عندما نحتفل بذكرى المولد النبوي، علينا أن نستحضر هذه المعاني السامية، والأخلاق النبيلة، حتى لا يكون ادِّعاء الدفاع عن اسم النبي وسيلة إلى التكسُّب السياسي، أو الدعاية الانتخابية، أو التنفيس عن مشاعر الغضب الدفين نتيجة سوء الأحوال الاجتماعية. فلا يجوز أن نُسيء إلى نبيِّنا من حيث نريد "الدفاع" عنه، لأنَّ الله قد رفع ذِكره، ولا يحتاج إلى دفاعنا.

إنّ المجتمع الباكستاني مجتمع حيّ، فيه العديد من الناشطين في مجال حقوق الإنسان، والمفكرين المستنيرين. فلا يمكننا التعميم أو اختزال شعب عظيم، فيما يقترفه المتعصِّبون والجهَلة منه. وتبقى بارقة الأمل في شبكة التضامن التي تَشكَّلت حول "آسيا بيبي"، من مسلمين ومسيحيِّين وغيرهم. وهي الشبكة التي تُشكّل النواة، التي ستُبنى عليها مستقبَلًا: المُواطَنة الكاملة الحاضنة للتنوّع.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive