الرجوع

كفى بالعدم جحيمًا

الإثنين

م ٢٠١٧/٠٦/١٩ |

هـ ١٤٣٨/٠٩/٢٥

مقابلة خطايا الإنسان وذنوبه المحدودة، بعقاب إلهي غير محدود، ما زالت تمثل إشكالًا كبيرًا تجاه كل من مفهومي العدالة الإلهية، والرحمة الإلهية. ومع تأكيد القرآن لقاعدة العدالة في العقاب، وكونه على قدر العمل كما في قوله تعالى: {وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، إلا أن كثيرًا من الناس يصرُّون على القول بأبدية الجحيم وخلود أهله فيه.

لا يتفق العذاب الأبدي للعصاة مع حكمة الله، الذي جعل العذاب في شرائعه تهذيبًا للنفوس وزجرًا لها عن الفحشاء والمنكر والبغي، كما لا يتفق ذلك العذاب مع رحمة الله في الآخرة، التي تبلغ تسعةً وتسعين ضعفا من رحمته في الدنيا.

لا ريب في أن زيادة الأجر للمحسن حسنة، خلافًا لزيادة العقاب للمسيء، وعلى هذا الأساس أمر الله عباده بأن يغفروا لمن "لا يرجون أيام الله"، وامتدح خُلق رسوله الكريم الذي غفر لأهل مكة المشركين الظالمين. عندما يتماثل أهل الجنة وأهل النار في الخلود، فإن هذا يعني أن غضب الله يستوي مع رحمته تعالى، وهذا يخالف حقائق القرآن. فاسم الرحمن قد استعلى فوق أسمائه تعالى كلها، إذ خصَّه بالاستواء فوق عرش الأسماء والكائنات. كما يخالف ما أخبر به الرسولُ الكريم "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي" (البخاري).

من أعظم النصوص التي تظهر سعة الرحمة الإلهية ما جاء في حديث الشفاعة يوم القيامة، والذي يأمر الله فيه بإخراج مَنْ كان في قلبه "مثقال ذرة من إيمان مِنَ النار"، وبعد أن يشفع النَّبِيُّون والملائكةُ والمؤمنون، يشفع الله "فيَقبِض قَبضةً من النار فيُخرِج أقوامًا قَدِ امْتُحِشُوا فيُلقَون في نَهَرٍ بِأفواه الجنَّة يُقال له ماءُ الحياة فيَنبُتون في حافَتَيْهِ كما تَنبُت الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيلِ ..." (البخاري). وهؤلاء الأقوام يسميهم أَهل الجنَّة "عُتَقاء الرحمن"؛ لأن الله أَدْخَلهُم الجنَّة بغير عَملٍ عمِلُوه ولَا خيرٍ قدَّموه". ولا عجب إن لم يفلت من قبضته أحد من أهل النار، فقد أخبر تعالى أنه {والأَرضُ جميعًا قَبضَتُهُ يوم القِيامة والسَّماواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيَمِينه}.

تفتح العلاقة اللغوية بين النار والنور آفاقًا تأويلية عجيبة، باعتبار أن "النور والنار من أصل واحد، وكثيرًا ما يتلازمان". وهنا يكون مآل أهل النار إلى النور بعد أن يستوفوا عقابهم العادل، ويتطهروا من معاصيهم. وهذه العلاقة نجد لها أصلًا في قصة موسى {إِذْ رأى نارًا فقال لِأَهله امْكُثوا إِني آنَستُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُم منها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ على النار هُدًى} [طه: 10].

ومن الأدلة على فناء الجحيم ما جاء في القرآن من بقاء أهل النار لمدة محددة {لابِثِين فيها أحقابًا} [النبأ: 23]. كما يؤكد ذلك، الاستثناءُ في مسألة خلود أهل النار، وتعليقُه بمشيئة الله في قوله تعالى: {فأمَّا الذين شَقُوا فَفِي النار لهم فيها زَفِيرٌ وشهيق، خالدين فيها ما دامت السَّماواتُ والْأَرضُ إِلَّا ما شاء ربُّك إِنَّ رَبَّك فعَّالٌ لِما يُريد}، خلافًا لأهل الجنة الذين أكد الله خلودهم بقوله: {عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].

ويؤكد هذا القول ما جاء في قول عمر بن الخطاب: "لو لبث أهلُ النار عددَ رَمْلِ عالِجٍ لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه" (الدر المنثور)، وقول عبد الله بن عمرو بن العاص: "يأتي على النار زمان تخفق الرياح أبوابها، ليس فيها أحد" (رواه البزار).

هناك أبعاد خطيرة وعديدة لعقيدة "خلود الجحيم"، منها تأبيدُ وجود الشر، وإعطاؤه أبعادًا عقدية مطلقة تماثل "العقدية المثنوية" التي تُؤلِّهُ الخير والشر، وتجعل وجود الخير والسعادة مقترنًا وملازمًا لوجود الشر والشقاء. كما أن القول بأبدية عذاب أهل النار فيه إعلاء لرغبة الانتقام والتشفي، وفي هذا منقصة للإنسان فضلًا عن قبح نسبتها إلى الرحمن.

ومنها أن القول بخلود الجحيم والعذاب يفضي إلى إنتاج أنماط من "التدين التعصبي"، الذي يعكس خوف الإنسان وقلقه أكثر مما يستبصر حكمة الله وعدله.

وختامًا، إنْ لم يكن الله قد استشار الإنسان وخيَّرهُ في الوجود، فإنه قد جعل خلوده فيه مرهونًا بإرادته واختياره، فمن شاء فليَكُن ومن شاء فليَفْنَ. فالجنة هي التعبير الأمثل لإرادة الوجود والخلود، والجحيم هو التعبير الأمثل لإرادة الفناء والعدم.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive