الرجوع

كنِيسَتان وفِصْح وصَفْح

الثلاثاء

م ٢٠١٩/٠٤/٢٣ |

هـ ١٤٤٠/٠٨/١٨

كأنَّ قَدَر البشرية أن تَجْمعها الكوارث والمآسي، بعد أن فرَّقَتها الحروب والنِّزاعات المسلَّحة والخلافات السياسية، التي تَدفع بالشعوب إلى التناحر. فتَظهر عناوين التضامن والتكافل الدُّوَلِيَّين، بعد وقوع كارثة طبيعية أو مصيبة في مكان ما من العالم، وإنْ كان حجم التضامن يتبدَّل بِدَوره بحسب مكانة المتضرِّر. وتلك لعَمْري طامَّة أخرى، لا مجال للحديث بها هنا.

في يوم الاثنين 15 نيسان/أبريل الجاري، التهَمَت النيران كاتدرائية "نوتردام" العريقة في باريس، مخلِّفةً أضرارًا هائلة، وحُزنًا لفَّ الفرنسيِّين وآلاف المهتمِّين بالمعمار والتراث العالمي في دول شتَّى. انهالت خطابات الأسف، كما دعوات التبرع لترميم الكنيسة. فاستجاب الأغنياء كما محدودو الدخل، لأن الوعي بقيمة ذلك المَعْلم لِلإنسانية جمعاء، كان طاغيًا. وقد سمِعْنا شهادات مسلمين في فرنسا، يبكون نوتردام، ويبكون حجم الخسارة الهائل ولَوعة الفقدان، وكأنَّ رئة باريس استُئصلَت إلى الأبد. مِن كلِّ الديانات أتت رسائل التضامن وعبارات الحسرة، كمَن يُضمِّد جراح العالَم الغارق بالأنانيّة، المضرَّج بدماء النزاعات والحروب.

نوتردام لم تكن تراثًا فرنسيًّا ولا رمزًا مسيحيًّا فقط، بل تُحفة فنِّيّة، للمجموعة الدولية نصيب فيها. أمَّا رمزُها الكنَسيّ، فهو بِدَوره لا يعني المسيحيين فقط، بل فئة أُسمِّيها "الأسْوِياء حول العالم"، أيًّا كان معتقدهم أو عدم اعتقادهم. حين يحترق بيت عبادة لفئة دينية ما، فهذا الأمر يعني الأسْوِياء جميعًا. ونَعني بالأسوياء، أولئك الذين لا يَحملون غِلًّا لأصحاب الديانات الأخرى، ولا لغير المؤمنين. وكلُّ ضرر يَمسُّ رمزًا دينيًّا، مكانَ عبادةٍ كان، أو لباسًا أو طقوسًا؛ يَمسُّ أولئك الأسْوِياء أيضًا، لأنهم واعون بحجم الأذى، الذي طال بتلك الخسارة روحًا مؤمنة، تنتمي إلى ذلك المكان، أو ترتدي ذلك اللباس، أو تُقِيم ذلك الطقس الديني.

اللافت في حريق نوتردام، هو حجم التضامن الجميل من معتنقي أديان ومعتقَدات على اختلافها، ومِن لادِينيِّين من كل البلاد. لكن، في الوقت نفسه، ظهرَت أصوات تستكثر على الناس تَضامُنهم، وتَستجْوبهم: "لماذا تضامنتم مع كنيسة؟"؛ مذكِّرين بأعمال تخريب أو دمار لحقَت بمساجد وكنائس في الشرق، وبانتهاك المسجد الأقصى.

الحقيقة، أنه لا يجوز تبرير التضامن، كذلك لا يجوز استدعاء مآسينا لنُقلِّل من حجم مأساة الآخر أو قيمتها. لا يجوز أخلاقيًّا ولا إنسانيًّا أن نستكثر على الآخر التضامن معه، أو نستفرد بحقِّ التضامن لأنفسنا. هذه الفردانية تُهشِّم كلَّ ما تَحقَّق في السابق، مِن مَشاعر تَضامُن مع قضايا الشرق: تهجير أقلِّيّاته، واحتلال فلسطين، وانتهاك حقوق العرب في الغرب، والعنصرية... إلخ.

بعد أيام من حريق نوتردام، هزَّت 8 تفجيرات إرهابية كنائس وفنادق في سريلانكا، مخلِّفة مئات القتلى صباح عيد الفِصْح. فاجعة سريلانكا -بخلاف حريق نوتردام-، الخسارة فيها ليست مادية ولا تراثية ولا فنِّيّة، بل بشَريّة. وتلك خسارة لا تُعوَّض ولا يمكن ترميمها، ولو بِمَال قارون. مئات الأشخاص قُتلوا بسبب دينهم. وذلك الفقدان لا يعني سريلانكا فقط، بل يعني مرّة أخرى "الأسْوِياء في العالم"، أولئك الذين يَعنيهم قتْل نفْس بشرية في مكان قَصِيّ من العالم، في كنيسة، أو معبد، أو مقهى، أو حانة، أو في الشارع. جميعُ ذلك، يَعنيه الأسوياء.

القصة ليست التضامن مع مؤمنين كانوا يصلُّون، بل مع أبرياء قُتلوا غدرًا. فذلك الرصاص الذي ينطلق في وجوه الأبرياء، في سريلانكا أو الهند أو نيجيريا أو بورما أو نيوزيلندا، أو في أيٍّ من بقاع الأرض، يعني قتل البشرية جمعاء، دون مبالغة. والتضامن مع مُصلٍّ في معبد بُوذيّ أو في كنيسة أو في مسجد أو أَمام بقَرة مقدسة، لا يعني عدم التضامن مع غير مؤمن قُتل غدرًا بِدَوره، وهو يمارس أمرًا يراه مؤمنٌ آخر "فِعلًا غير أخلاقي" أو "غير سَوِيّ".

أَنْ نكُون أسْوِياء، يعني أن يَهُزَّنا القتل، أيًّا كان القتيل، وأيًّا كان مسرح الجريمة. أن نكُون أسْوِياء، يعني ألَّا نبرِّر أسباب تَضامُننا مع ضحايا في مكان ما، أو أسباب حُزننا لفقدان مَعْلم ديني في مكان ما. أن نكُون أسْوِياء، ممكن جدًّا رغم انهيار القيم الأخلاقية وتَغلغُل الحقد، حتى في أوساط النُّخَب. لن نَنصر قضايانا بتحقير قضايا الآخرين، ولا بتجاهل مآسي الآخرين، ولا بإعلاء ديننا على حساب أديان الآخرين، أو حتى على حساب إلحادهم.

رَجاءً، دعُونا نكُن أسْوِياء، دعُونا نحافظ على منسوب إنسانيّتنا، وسط هذا الخراب الهائل.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive