الرجوع

كُلُّنا أقلِّيّات

الخميس

م ٢٠١٩/٠٣/٢٨ |

هـ ١٤٤٠/٠٧/٢٢

اِستغربتُ العددَ القليل من المشاركات في تغريد فيديو، لصحفيّة شهيرة تتحدّث بمعاناة الإيزيديّين، وعدم ثقتهم ببلادهم، بعد خذلان الجيران وأبناء الوطن الواحد لهم، في سماحهم -ولو كان على هيئة الصمت- بكلّ الانتهاكات التي يَنْدى لها الجبين، والتي تَعرّض لها الإيزيديّون في السنوات الأخيرة، من سبيٍ واغتصاب وقتل وتهجير. فلم يَسلَمْ رجل أو امرأة أو طفل.

تابعتُ الفيديو على حسابي في "الفيسبوك"، وانتظرتُ. فعادةً ما تحظى منشوراتي بمُتابعة جيّدة؛ نظرًا إلى عدد المتابعين الجيّد نسبيًّا، إلّا هذا المنشور، إذ يبدو أنّ المُتابعين مَرُّوا عليه بسرعة، ولسان حالهم يقول: "ألمْ يتبقَّ لنا من المشاكل سوى مشكلة الإيزيديّين؟". وهُم في الواقع، لا يُدركون أنّ الظلم لا يُولِّد إلّا الظلم، وأنّ الشجرة الفاسدة، لا ولن تَطرح الزهور.

لم تَمضِ إلّا أيّام على نشر هذا الفيديو، وإذا بالهجوم الإرهابيِّ يقع على مُصلّينَ عُزّل في نيوزيلندا، في واحدٍ مِن أكثر جرائم الكراهية قسوةً وألمًا في الغرب. كان يومًا عصيبًا عليّ. حالي كحال كلّ إنسان سَوِيّ في العالم. كان للحدث -وما زالَ- وقعٌ صادم، فاضت معه دموع الحزن، على أرواح بريئة تُصلّي في بيت الله بسلام.

كُنتُ كغيري في الدول العربيّة. مشاعري مختلطة، مزيجٌ مِن الألم والغضب، والرغبة في الانتقام مِن العنصريّة الطائفيّة البغيضة. مشاعر الكراهية لم تكن تجاه البلد الذي أعلن الحداد، وشاطر أبناؤه فيه جيرانهم أحزانهم على الإطلاق. الكراهية كانت موجّهة إلى فعل الكراهية نفسه. وهذا ما أختلِفُ فيه مع الكثير مِن المتعاطفين الغاضبين.

نعم، لقد لعنْتُ القاتل ومَن حرَّضه، وغضبْتُ. ولكنّ غضبي كانَ –كما في كلّ مرّةٍ- على ما تَحصده العمليّات الإرهابية من أرواح الأبرياء، في العراق وأفغانستان وبورما وفلسطين المحتلة وأميركا وفرنسا، وفي كلّ بقعة من بقاع الأرض، بدون تفرقة بين ضحية وضحية، ودين ودين، وانتماء وانتماء.

نعم، هناك مِن الأحداث ما تُهمُّكَ أكثر مِن غيرها. ولكنْ، أنْ يكون السبب الرئيسيُّ وراء إهمال الحدث الذي لا يَعنيك، أنّ الضحايا ليسوا من ديانتك؛ فهذا أبعدُ ما يكون عن الإنسانيّة، التي تُنادي أنتَ نفسُك العالَمَ بها، عندما يَعنيك أمر الضحايا، وكأنَّ كلَّ ما يَحدث لغير مَن ينتمي إلى طائفتك، لا يَمسُّك، ولا يُمكن أنْ يَمسَّك. وفي هذا مغالطة كبيرة، وقِصَر نظر، وعدم وعي، خصوصًا أنّ العالم يُتابعك، وأنّ هناك مَن يُراقب كيف تتعامل مع الأحداث في منطقتك. يُؤذيهم هذا التحيّز، ويزرع في أنفسهم مشاعر غبن وكراهية. يَظهر هذا واضحًا، وبخاصّةٍ عند ضعاف النفوس، الذين يُعبّرون بشماتة عن أحداث الكراهية، التي قد تحصل لأبناء طائفتك في بلادهم.

مِن واجبنا الدفاع عن الأقليّات المسلمة في الروهينغا، التي تتعرّض لتطهير عِرقيّ، والأقليّات المسلمة التي تُضطهَد في الصين. ويجب علينا أنْ نتعاطف معَ الحوادث الفرديّة، التي يذهب ضحيّتها مسلمون أبرياء، نتيجة جرائم العنصريّة والكراهيَة التي اجتاحت العالم. لكنْ، لا يُمكنُنا أنْ نَفْصِل تلك الجرائم عمّا ارتكبَه الإرهابيّون في الأقليّات الإيزيديّة، أو عن التهجير الذي تعرّض له المسيحيّون في العراق، أو تفجير الكنائس في مصر، أو عن أيّ عنف أو تمييز تتعرّض له أقليّةٌ ما في الشرق، أو أحداث عنف فرديّة يرتكبها إرهابيّون في الغرب.

اليوم، كثيرٌ منَّا لديه مِن الأحبّة مَن هاجر أو سافر أو استقرّ في بلاد الغربة. فيجب أنْ نكون أكثر إدراكًا لمعنى أنْ نكون مختلفِين عن الأغلبيّة، ومعنى أنْ ننتميَ إلى أقلّيّة لا نُؤْمن فيها بما يُؤمن به المحيطون بنا. ولكنّنا مع ذلك، نريد أنْ نعيش بسلام دون تمييز، أنْ نُعطيَ ونأخذ، أنْ نبنيَ ونعمل ونتعلّم، وأنْ نمارس عباداتنا بسلام، دون أنْ نؤذيَ غيرنا، أو أنْ نتعرّض لأذيّة الآخرين.

لقد آنَ الأوان لفهم الحياة ورسائلها بعمق. ما نُقدّمْه مِن دعم للأقليّات المختلفة عنّا في الديانة في بلداننا، فسيعود بالخير على أحبّائنا الذين يُشكّلون أقليّات في الغرب، معَ الأخذ بعين الاعتبار، أنّ الأقليّات الدينيّة في بلداننا، مزروعة فيها منذ الأزل. هُم أصحاب أرض، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. وما نزرَعْهُ مِن محبّة هنا، فسنجنيه محبّة هناك. هكذا هي الحياة. ما تُعطِهِ بيدك اليُمنى، تَحصُدْهُ بالأخرى. ولا تنسَ أنّكَ إنْ كنتَ اليوم تنتمي إلى أغلبيّة إثنيّة أو دينية في بلدك، فأنت لا تَعرف أين ستكون غدًا.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive