الرجوع

لا مِعْوَل يَكْسِر الفنَّ

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠١/١٠ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٢٣

"في سبيل حب الله"، رفع مطرقة وإزميلًا، وانهال على تمثال معتّق لامرأة عارية يحطمه.

لم يكن مشهد تحطيم تمثال "عين الفوارة" في مدينة سطيف شرقي الجزائر في كانون الأول/ديسمبر الماضي، خبرًا "خفيفًا" في باب المنوَّعات، تتناقله وكالات الأنباء والفضائيات، بل كان مشهدًا يَشِي بما آلت إليه الصور الذهنية المعكوسة عن الفن، من عنف واعتداء على التراث والأملاك العامة تحت بند "محاربة الشرك".

تخريب تمثال "عين الفوارة" جرى صباحًا وعلى مرأى من المواطنين ومسمعهم، الذين تجَمْهروا في المكان وحاولوا وقف التخريب بإلقاء العُصِيّ والحجارة على الفاعل. الفاعل من سطيف، ومَن حاولوا منعه من إتمام فعلته هم من سطيف أيضًا، لكنهم لا يتقاسمون القناعات نفسها، ولا يحملون ردات الفعل ذاتها، تجاه تمثال نُصب في المكان عام 1899، وصار رمزًا للمدينة.

"ملتح بقميص أبيض يخرب تمثالًا"، هكذا جاء وصف الفاعل في الخبر، وكأن لحيته هي بالأساس أداة الجريمة، والقميص الأبيض يسطر هويته الدينية. قد تكون الهيئة الخارجية في العقل الباطن رمزَ انتماء إلى مجموعة دينية، تحمل أفكارًا معينة عن الدين وطرق ممارسة شعائره، وعن إخضاع الآخرين إلى منهج عام للتعامل وفق ضوابط "شرعية" يطول السجال بشأنها، لكن تجريم فعلة الفاعل باختزاله في "مُلْتح"، يسقطنا أيضًا في فخ الصورة النمطية عن الملتحين الذين يرتدون قُمصانًا بِيضًا بوصفهم "أعداءً متوقَّعِين" للفن والنحت بالذات. والحقيقة أن "مُلْتحين" كثيرين مرُّوا بذلك المكان على امتداد قرن ونيف دون التعرض للتمثال، إمَّا تقبُّلًا له، أو لإيمانهم بأنه مجرد تمثال لا يمس عقيدتهم بسوء، ولا يشكل أي تهديد لِـ"الأخلاق العامة".

قيل بعد الحادثة إن هذا "الملتحي" مختلُّ المدارك، ونحن هنا أمام هوية ثانية (غير مؤكدة أيضًا) للفاعل، تجعله بشكل ما غير مسؤول عن فعلته؛ لأن مَلَكَة الإدراك مفقودة لديه. وأمام اختلاط هويات الفاعل في هذا الحادث، سيكون لزامًا علينا أن نبتعد عن الفاعل ونتحدث عن الفِعلة. والفِعلة هنا ليست الأولى، بل سبق أن تعرَّض التمثال ذاته عام 1997 لعملية تفجير نفَّذها متشددون، ثم استعاد التمثال شكله الأصلي بسرعة بفضل عملية ترميم دقيقة حرصت الدولة على إنجازها.

استهداف التماثيل لم يكن حكرًا على الجزائر، ولم يُستهدف تمثال عين الفوارة بالذات لأنه يجسد صورة امرأة عارية، فعمليات تحطيم التماثيل تكرَّرَت في الدول الإسلامية، وشملت مُجسَّمات لنساء غير عاريات، ولرجال بكامل أناقتهم. ففي عام 2015 حُطم تمثال الطاهر الحداد رائد تحرير المرأة في تونس في مسقط رأسه، وفي عام 2011 اقتحم متشددون معرض فنون تشكيلية في ضواحي تونس، وخربوا لوحات قالوا إنها "مسيئة للإسلام". وشهدت أفغانستان وباكستان عمليات تفجير عدة قامت بها "طالبان"، واستهدفت تماثيل بوذا. وشاهدنا عمليات تخريب التماثيل في الموصل في العراق، وفي الحسكة في سوريا، وفي مصر، وقائمة الأمثلة على الاعتداء على التراث الفني طويلة.

كانت "خادشة للحياء"، هكذا يصف بعضهم تمثال عين الفوارة الذي يجسد امرأة عارية، تتدفق منها مياه حارة في الشتاء وباردة في الصيف، متوقِّفين فقط عند العراء الذي تظهر فيه صخرة مصقولة من المرمر، لا عند جمالية التمثال التي لا يمكننا أن نُقنع بها مَن يرفض رفضًا قاطعًا فكرة "التجسيد".

وهنا علينا أن نفتح قوسين في باب فتاوي تحريم التماثيل، المتغلغلة في التراث الإسلامي، والتي تمثل في الحقيقة ركيزة استند إليها مُفجِّرو التماثيل ومُشوِّهُوها. يقول بعض الفقهاء في باب تحريم التماثيل (وكثيرًا ما يسمُّونها أصنامًا، وهو استحضار مقصود لمرحلة ما قبل الإسلام لربطها بالشرك): إنَّ "الله اختص بتصوير خلقه وإبداعهم على أحسن صورة، فكان التصوير مُضاهاة لخلق الله تعالى". فهل يُعقل بعد مرور 1400 عامٍ على ظهور الإسلام، أن يُشرِك المسلمُ لأن تمثالًا نُصب في مدخل مدينته؟ وهل سيفكر هذا المسلم في الركوع عند قدَمَي التمثال واتخاذه إلهًا؟

فتوى أخرى تقول: إن "التماثيل ذوات الأرواح كلها حرام، ولا فرق من حيث كونه صنمًا في التحريم سواء كان على صورة شخص مسلم أو كافر، لكن صُنع تمثالٍ لكافرٍ أشدُّ في الحرمة لما فيه من جَمْع بين شرَّين، شرّ صُنع التمثال، وصُنع تعظيم هذا الكافر". ومختصر الفتوى أنّ هناك تمثالًا لمسلم وتمثالًا لكافر، وكلاهما حرام، وهذا وحدَهُ مثير للضحك. لكن القصة ليست طريفة على الإطلاق، ففتاوي تحريم الفن والنحت تحديدًا حرَمَت شُعُوبًا بأسرها متعة النظر إلى الجمال، والارتقاء بالحس الفني وتهذيب الذوق العام.

مدارس الفنون الجميلة ليست متوافرة في جميع المجتمعات الإسلامية؛ بسبب التحريم. لكن العجيب هو المنافسة من قِبَل أثرياء العرب في دول تحرِّم التماثيل واللوحات التي تحمل وجوهًا، في اقتناء النفائس في الفن في أغلى المزادات العلنية في العالم.

ثنائية تحريم الفن والرغبة في اقتنائه، تسكن مجتمعاتنا في ازدواجية لافتة، تعكس استحالة لَجْم الجَمال وتصفيد الفنِّ، مهما تَغَوَّل المنعُ ومحاولاتُ المصادرة. فلا سلطة تعتقل الفكر، ولا مِعْوَل يَكْسِر الفنَّ.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive