الرجوع

لعنة التَّوافق السياسي

الخميس

م ٢٠١٨/٠٩/٢٧ |

هـ ١٤٤٠/٠١/١٧

الدِّيمقراطية هي مفهوم ليبراليّ، يقوم أساسًا على مبدأ الحرية الخلّاقة التي تَدفع المجتمع إلى الأمام، بِفِعل تفاعُل الأفكار والمواقف المختلفة والمتعارضة، والتنافس في ما بينها لكي يَتبيّن الأفضل ويأخذ دوره القياديَّ، إلى حين استبداله برأي أو موقف أفضل منه. يتطلّب ذلك الاعتمادَ على مبدأَيْن: نسبيّة الحقيقة، وشموليّة الحقّ.

لا حقيقة مطلقة في مجال الإدارة السياسية للحياة العامة، إذْ تَخضع النظرياتُ والبرامج السياسية لِحقل التجربة في إدارة الشأن العامّ، ولِلتَّقييم والمحاسبة من قِبَل المواطنين، الذين هم مَصدر هذه السلطة ومَرجِعها. لذلك، من الطبيعي -لا بل من المنطقي- أن يُعيد المواطنون النظر في مواقفهم وخِياراتهم السياسية، بناءً على النتائج الواقعيّة؛ ما قد يدفعهم أحيانًا إلى الانتقال بدعمهم من قياديٍّ إلى قياديّ آخَر، داخل الحزب الذي ينتمون إليه أو يتبَنَّون سياسته، أو حتى الانتقال من حزب إلى حزب آخر. إلَّا أنه من غير الطبيعي، أن يتعامل المواطنون مع الطُّروحات والشخصيات السياسية على قاعدة "الإيمان"، وكأنهم يمثِّلون معتقداتٍ شِبْه دينية، أو إلهامًا ووَحْيًا إلهيَّيْن. وعندما يَعتبر سياسيٌّ ما أنّه يمثّل الحقيقة في وجه الضلال، فهذا يعني أنّه خرج من منظومة الديمقراطية، وأصبح يُمارس نوعًا آخر من السُّلطة، التي تَقضي على الحرية والتطوّر معًا، وتقود إلى الاستبداد والعنصرية.

أمَّا "الحقّ" بالمعنى السياسي للكلمة، فهو يشمل جميعَ المواطنين بدون استثناء ولا تمييز، ومن أجله تُمارَس السياسة، وبه تُنعت الدول بالاسم المشرّف "دولة الحقّ". فتقوم المواطَنة أساسًا على منظومة الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي يكون دَور السياسة الفعّالة تأمينها لجميع المواطنين، ومِن ثَمَّ تحقيق العدل والسلام والعدالة الاجتماعية. والحق بهذا المعنى شامل لا ينقسم، وإن اقتضى تدابيرَ خاصة ومميّزة لبعض الفئات، لتأمين شموليّته. فعلى سبيل المثال: انطلاقًا من مبدأ حرية التنقل والمساواة بين جميع المواطنين، على السلطات المعنيّة تأمين السبل الخاصة لذوي الإعاقات الجسديّة، للتنقل مثل غيرهم في الأماكن العامة. وهذا لا يعني تمييزًا، بل تحقيقًا للحقّ.

بهذا المعنى، نستطيع القول بأن السياسي يعمل لتحقيق دولة الحقّ بشكل شامل، دون ادِّعائه تمثيل الحقيقة بشكل أُحاديٍّ أو مطلق. لهذا السبب، وفي حين يُعتبر الاتفاق والتوافق والتناغم وكلُّ ما شابه ذلك في الحياة اليومية والعلاقات بين الناس، من الفضائل التي تَجلب الهناء والسكينة والتضامن وحتى السعادة، تُصبح تلك الفضائلُ نفسُها "لعنة"، إنْ قامت على أساسها الحياة السياسية. فالديمقراطية تعيش على الاختلاف والتنافس من أجل الأفضل، انطلاقًا من تنوّع الآراء وحرية المواطنين.

لقد ارتبط تشكيل السلطة السياسية الإجرائية في لبنان بمقولة "التوافق"، ونَتج منها منذ سنة 2005 ما عُرف بحكومات الوَحْدة الوطنية. والسؤال البديهي الذي يَطرح نفسه أمام هذا الواقع: على ماذا يتوافق السياسيّون اللبنانيّون ليُشكّلوا معًا سلطة مشتركة؟ إنْ تعمّقنا في التحليل، نرى أنّهم لا يتوافقون بالحقيقة إلّا على أمر واحد، ألا وهو اقتسام السلطة وتوزيعها حِصصًا تتناسب مع أحجامهم، وتتلاءم مع أطماعهم، في حين يَصعب كثيرًا توافُقُهم على ما يؤمّن حقوق الناس. فعلى سبيل المثال: رُغم كلِّ التعقيدات، نجح السياسيون دائمًا في التوافق على تشكيل الحكومات، أو على إصدار قانون جديد للانتخاب؛ وكلُّ ذلك بهدف تحقيق مصالحهم، وتثبيت مواقعهم السياسية. لكنهم لم يستطيعوا التوافق على أمر حياتيّ وتِقْنيّ، مثل: تأمين الكهرباء لجميع المواطنين، أو إدارة النفايات بشكل سليم، أو تطوير البِنَى التحتيّة والمرافق العامة وإدارتها بشفافية مثل المرفأ والمطار وغيرهما.

لذلك، أقول بأن التوافق على السلطة السياسية هو لعنة للديمقراطية، لأنّه يَهبط بالحقيقة إلى مستوى المحاصَصة، ويكون حُكمًا على حساب المواطن وحقوقه.

قد يعتقد بعضهم أن التوافق ضرورة في مجتمعات يهدّدها الصراع والتفكك، لغياب الثقة بين المواطنين والسياسيين، والخوفِ من استئثار فئة من الشعب على فئة أخرى. وقد يكون هذا الطرح، فيه شيء من الواقعيّة. لكن، في غياب الثقة وتفكُّك الترابط الاجتماعي بين الناس، تكون المعالجة بتجديد العقد الاجتماعي على أساس حوار وطني صريح وشامل، وليس بدفن الرؤوس في التراب بحجَّة التوافق؛ لأنّ الواقع يدّل على أن هذه المقاربة غير السليمة، تقود إلى توافق السياسيين على حساب المواطنين من جهة، وتُسرّع من جهة أخرى انهيار مقوّمات الدولة، وهما من أبرز أسباب الوقوع في الحروب الأهلية.

إنّ الخوف من الديمقراطية الحقّة في مثل هذه الظروف، كمن يخاف من إبرة فحص الدم، الذي يحتاج إليه لتحديد طريقة علاجه من السرطان؛ فيَرفض تحمُّل وَخْز الإبرة، ويُفضّل أن يموت ببطء من مرضه.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive