الرجوع

لماذا خَلق اللهُ الإنسانَ ضعيفًا؟

الجمعة

م ٢٠١٨/٠٨/١٧ |

هـ ١٤٣٩/١٢/٠٦

تستَوقِفني المكانة المزدوجة للإنسان في القرآن الكريم. فمن ناحية، نجد فيه أن الإنسان مُكرَّم عند الله، نَفخ فيه اللهُ من رُوحه وسخّر له الكائنات، وجعله خليفته في الأرض. ومن ناحية أخرى، يُكرِّر النصُّ القرآنيّ ما يُوحِي بمحدوديّة الإنسان: {يُريدُ اللّه أن يخفّفَ عنكمْ وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا} [النساء: 28]. فإن الإنسان بحسب القرآن: ضعيفٌ، جَهُول، كَفُور، قَتُور (بخيل)، كثيرُ الجدَل، ظَلُوم، كَنُود (جاحِد النِّعمة)، هَلُوع (قليل الصبر)، مَنُوع (لا يُنفِق في الطاعات)...

إلَّا أنه يبدو أن الإنسان، لا يتقبّل هذا الضعف بسهولة. فنرى أكثر الناس في حياتهم اليوميّة، يحاولون أن يُخفوا أيّ مشاعر ضعف، وأن يتزيَّنوا بمظاهر القوَّة بدَلَها. فنجد الإنسان يتعَجْرف لَاشُعوريًّا ليُخفي قلقَهُ الوجودي، أو يستكبر ليغطّي شعوره بالنقص، أو يتَّهم الآخرين بالإخفاق ليَستر فشله، وغيرها من الخدع الفكرية النفسية التي نقوم بها كلّ يوم، لنَحجب نظرنا عن عيوبنا الداخلية. إلَّا أنها موجودة فينا، وكُلَّما حاوَلْنا إخفاءَها ابتعَدْنا عن أنفُسِنا، وبنَيْنا حَواجزَ بَيْننا وبين الآخرين.

يأتي النصُّ القرآني والشَّخص المُعوَّق عقليًّا، لتذكير الجميع أن الضعف هو جزء من طبيعتنا. فالشخص المعوَّق حاملٌ ضعفه ومحدوديَّته بشكل ظاهر؛ وربما لهذا السبب حاولَت في الماضي الكثير من العائلات، إخفاء أطفالها المعوَّقين عن المجتمع المحيط، في سياق هذه النَّزعة الإنسانية في عدم تقبُّل الضعف. وأيضًا ربما لهذا السبب، يتجنّب كثير من الناس لِقاءَ أشخاص ذوي إعاقة، إمَّا لِتجاهُل المحدوديّة الإنسانية، وإمَّا لأنهم يشعرون بالذَّنْب لِكَونهم هُم في "خِلقة كاملة" كما يقولون، وآخرون لدَيْهم إعاقة ظاهرة.

إلَّا أن النصَّ القرآني، يأتي ليذكّر أنّ الجميع مُعوَّق بشكل أو بآخر، وأنّ ذلك جزء من تركيبة الإنسان النفسيّة. فكُلُّنا معوَّق سيكولوجيًّا، وإنْ قبِلْنا ذلك بيننا وبين أنفسنا، فسيُساهم ذلك في طَمْأنة قلَقِنا الوجودي، وسيتجلّى في تعاملنا مع الناس. يقول جان فانييه مؤسِّس جماعة "لارش" (وهي جماعة يعيش فيها أشخاص ذوو إعاقة عقليّة وجسدية وأشخاص غير ذوي إعاقة كأسرة واحدة تغتني من بعضها بعضًا، لها فروع في كافّة أنحاء العالم)، بأنّ الإنسان "يفتّش على اعتراف الآخرين به، يخاف من كلّ محاكمة أو حكم، من كلّ ما يبرهن عن أخطائه ونواقصه، كما لو أنّ الاعتراف بكلّ ما لديه من ظُلمات وجروح، يثير مشاعر لا تُحتمل من القلق والموت". لذا، فإنَّ قَبُولنا لِنواقصنا ومحدوديَّتنا التي خلقها الله فينا، هو الطريق لبناء علاقات إنسانية سليمة.

هذا القبول، هو بيننا وبين أنفسنا. فلا أعني هنا بأنه علينا أن نتشارك مع الجميع في نواقصنا، ونَدخل في دوَّامة تبجيل الضعف. كَلَّا، بل أعني أن نَقْبل أنه أحيانًا نشعر بالتقصير، بأننا دون المستوى، بأننا لم نُعطِ بالشكل الكافي، ولم نحبّ بالشكل المطلوب... ، وأيضًا ألّا نحاول ستر ذلك بإلقاء اللوم على الآخرين، أو بتصرُّفات غير واعية هدَفُها مساعدتنا على تجاهُل التقصير. ثم إنّ هذا التقبّل لا يعني تقليص أنفسِنا في مساحة نواقصنا؛ ما يجعلنا ننظر نظرة دونيَّة إلى أنفسنا، ويُدخلنا في دوَّامة جَلْد الذات أو تحقير النفس باستمرار. أمّا إنْ قبِلْنا هذه النواقص كجزء منّا، ولم نحاول تغطيتها من جهة، ولم تُختصر أنفسنا فيها من جهة أخرى، فسيُسَاعد ذلك على نموّنا.

وهنا، يأتي الشخص ذو الإعاقة العقليّة كمِثال، لا كجزاء من الله أو بلاء، مثلما يظنه بعضهم. فهو من ناحية يحمل إعاقته بشكل ظاهر متقبِّلًا إيَّاها كجزء من ذاته، ومن ناحية أخرى تَحُول إعاقتُه دون الألاعيب العقلية أو السيكولوجية، التي تحاول استجلاب القوة والتنكّر للضعف. فمَن يَعرفْ أشخاصًا ذوِي إعاقة عقليّة، يُدركْ مِن خلالهم ميزة حُبٍّ صافٍ يَصدر عن شخصٍ ذي إعاقة، دون النظر إلى الجاه أو المكانة الاجتماعية أو المنظر الخارجي للشخص الذي يقابله؛ فيَنظر إلى الجميع بنظرة الله إليهم؛ إذ "إنَّ الله لا يَنظُرُ إلى أجسامكم، ولا إلى صُوَرِكُم، ولكنْ يَنظُر إلى قُلوبكم" (صحيح مُسْلِم).

يُذكِّر الشخص ذو الإعاقة العقليّة بقيمة الإنسان بذاته، لا بما يَملك، ولا بما يفعل، ولا بصورته الخارجية، كذلك يُذكِّر أنّ الإنسان -مع ضعفه- مُكرَّم من لَدُن الله. فحالُهُ يفسِّر للجميع لماذا خَلق اللهُ الإنسانَ ضعيفًا. إنّ في تقبُّل الضعف والتعامل معه بإيجابيّة، سِرَّ قوّة الإنسان، التي تتجلّى بالصبر والمثابرة، والتطلّع الإيجابي إلى الحياة، وقرار الاستدامة على فعل الخير، بغضِّ النظر عن محدوديَّتنا، ودون محاولةِ سترها.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive