الرجوع

لماذا ضَحك بعضُنا؟!

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٩/٢٠ |

هـ ١٤٣٨/١٢/٢٩

مواقف كثيرة ومشاهد متنوعة مرت بنا، بعضها إيجابي وبعضها الآخر سلبي، تختزنها الذاكرة وتستعيدها بين الحين والآخر، وهي تعكس على أية حال، ثقافة الفرد ومنظومة القيم السائدة في المجتمع التي اكتسبها ونشأ عليها، كما تعكس ثقافة الآخرين وطريقة تفكيرهم وكيفية تعامل بعضهم مع بعض.

وقد يدل تحليل هذه المشاهد وتفسيرها على تفهم حالة المواطنة، ودرجة الإيمان بالتعددية والتنوع واحترام الآخر المختلف على كافة المستويات: في الدين، المذهب العَقَدِيّ، اللون، النوع الاجتماعي، المستوى الاقتصادي-الاجتماعي، الانتماء الفكري والأيديولوجي، وغيرها.

المشهد الأول عندما كنتُ طالبًا في المرحلة الجامعية، بجامعة القاهرة التي تمثل واحدة من أعرق الجامعات المصرية والعربية. حدث أن رفع أحد الزملاء يده طالبًا الكلمة، وأذن له الدكتور في الحديث. وقف الطالب وتكلم بلهجة "صعيدية"، هي لهجة الساكنين في جنوب مصر ويُطلق عليهم "صعايدة" نسبة إلى صعيد مصر. ضحك بعضنا على الطالب الشاب، لا لشيء إلا لأنه تحدث بلهجة محلية غير قاهرية، غريبة على أسماع بعضنا، مع أن العربية لغة واحدة لها عشرات اللهجات التي قد تختلف من مدينة إلى أخرى، أو من دولة عربية إلى دولة عربية ثانية. فضلًا عن ذلك، فإن كثيرًا ما يردد بعضهم "النكات" التي تبدأ بعبارة "مرة واحد صعيدي"، أو "مرة ناس صعايدة"، في إطار من السخرية والاستهزاء.

والمشهد الثاني حين يجلس مجموعة من الشباب في أحد الأماكن العامة، ويمر أمامهم شاب أسمر البشرة "أسود اللون"، قد يكون مواطنًا مصريًّا وقد يكون وافدًا من أصول إفريقية، قدم إلى مصر بغرض العمل أو الدراسة أو السياحة، وربما طلبًا للعلاج في مستشفياتها. يستهزئون به وينادونه بأوصاف مختلفة قاصدين بها السخرية منه والإساءة إليه من نوع "نجرو"، "زنجي"، "عسلية"، "سمارة"، "شيكولاته". وقد يزداد الأمر إمعانًا في المضايقة لو كانت فتاة سمراء، إذ يعتبرونها كائنًا ضعيفًا يستقْوُون عليه!!

وأما المشهد الثالث فعندما خرجوا من المسجد القريب من محل تجارته بعد أن أدَّوا فريضة الصلاة، حيث اقتربوا منه وألقوا إليه التحية والسلام، فرد بمثلها، ثم سألوه: "الحمد لله مُسلم"؟ تعجب الرجل من سؤالهم ليأتي رده بطريقة تحمل قدرًا من الاستهجان قائلًا: "الحمد لله مسيحي"، فانصرفوا دون تعليق ودون سلام.

يردد بعضهم عبارات تمييز ضد المواطنين المسيحيين من نوع "أربعة ريشة"، و"عضمة زرقاء"، و"كوفتس" تحريفًا لكلمة Copts، وهي عبارات تضايق المسيحيين من أهل الوطن وتجعلهم يشعرون وكأنهم خارج إطار الجماعة الوطنية.

عبارات أخرى تحتاج إلى مراجعة على الرغم من ترديدها أثناء الصلاة في دور العبادة، من نوع: "اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين"، "اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين"، "اللهم ارفع شأن المسيحيين في المسكونة كلها".

جمل أخرى صارت مألوفة، نسمعها في الشارع والمواصلات العامة ومواقع العمل، من نوع: "ست بس جدعة"، "بنت بس بِمِيت راجل"، "مسيحي بس كويس"، "مسلم بس مش متعصب"، "صعيدي بس بيفهم"، "أسمر بس جميل"!!

تساؤلات كثيرة وهموم كبرى تعكسها المشاهد السابقة، وغيرها الكثير من مواقف نمرُّ بها، تصدم كل من يتحدث عن المواطنة باعتبارها مشاركة ومساواة، وطريقة في التعامل مع الآخر المختلف، حيث تشير تلك المشاهد إلى واقع مرير يرفض التعددية وينكر التنوع، كما تعكس تنميطًا وقولبةً “Stereotyping” يمارسها كل طرف مع الطرف الآخر.

تحدُث هذه المواقف -في بعض الأحيان وعلى أحسن تقدير- دون وعي أو تفكير؛ وقد يعود السبب هنا إلى أننا لم نتعود الاختلاف منذ الصغر، ولم نتربَّ على احترام التنوع. لم نعرف معنى التعددية وكيف أنها سنة الحياة، وأن التنوع عامل غنى وثراء، ومصدر قوة للمجتمع متى أحسنّا إدارة هذا التنوع. وقد يمارسها بعضهم بشكل مقصود من منطق التعالي على الآخرين والشعور بتميز الذات وتفوقها، وربما تكون هناك أسباب أخرى، ولكن النتيجة واحدة هي فقدان الشعور بحقيقة الاختلاف بين البشر والمساواة فيما بينهم، وكيف أنها تعددية في إطار الوحدة أو أنها وحدة حاضنة للتنوع.

يكمن الحل في التربية على التنوع والتنشئة على ثقافة التعددية وقبول الآخر واحترامه، وهي مسؤولية جماعية مشتركة، تشترك فيها كافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية، تلك العملية التي يكتسب الفرد/المواطن من خلالها قيمًا وأنماطًا سلوكية تساعده على التعامل مع الآخرين والتكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه، وفي مقدمتها مؤسسة الأسرة، والمؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية والثقافية والشبابية، وغيرها من منظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى سن التشريعات والقوانين التي تُجرّم التمييز وتعاقب من يُمارسه.

السؤال الآن: هل نواجه أنفسنا ونصارح بعضنا بعضًا؛ لعلنا نتخلص من حالتَي التعصب والتمييز وننتقل إلى آفاق المواطنة التي تتسع لتقبل جميع المواطنين شركاء الوطن على قواعد العدل والمشاركة والمساواة، وتحترم الإنسان أيًّا كان؟

خلاصة الكلام قد تكون من أقوال الزعيم الهندي المعروف المهاتما غاندي (1869-1948م)، الذي نادى بمبدأ اللاعنف والتسامح: "الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العِداء، وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألدِّ الأعداء".

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

إخترنا لكم

Alternate Text
جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive