الرجوع

لِكلٍّ مِنَّا نظَّارته

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٣/٢٩ |

هـ ١٤٣٨/٠٧/٠٢

إذا خرجنا من الكوكب الأرضي، ونظرنا من بُعد إلى الأديان على هذا الكوكب، أكانت الأديان التوحيدية المعروفة (المسيحية، والإسلام، واليهودية)؛ أم الأديان الدهارمية الفيدية المنبثقة من شبه القارّة الهنديّة (الهندوسية، والبوذية، والجاينية)؛ أم الأديان الصينية، واليابانية (الطاوية، والكونفوشية، والشينتو)؛ أم غيرها من الأديان القديمة، أو الجديدة، أو الأديان التقليديّة القَبَلِيّة؛ وبعدها حاولنا استخلاص ما هو الدين بشكل عامّ، وما هي وظائفه- يتبيَّن لنا ما يلي:

الدين (أيُّ دين)، أتوحيديًّا كان أم لا، أمصحوبًا كان بكتاب أم لا، أمعروفًا كان مؤسّسُه أم لا، يقدّم أولًا لأتباعه نظرةً تفسيرية للكون، ولأسئلة الإنسان الكبرى. وتتبلور هذه النظرة التفسيرية في عقيدة الدين، وفي القصص المفسّرة لخلق الكون، وخلق الإنسان، وما بعد الموت...

ثانيًا: يقدّم الدين أساسًا ومنهاجًا للعلاقة بالماورائي، أَإِلهًا كان، أم عِدّة آلهة، أم روحًا تُحرّك كلّ الخليقة.

ثالثًا: يقدّم الدين بتعبيره الاجتماعي، إمكانية الانتماء إلى جماعة هي أكبر من دائرة العائلة.

بهذه الأبعاد، يلعب الدين دورًا مُطَمْئِنًا للفرد على ثلاثة صُعُد: الوجودي، والروحي، والاجتماعي.

وتكتمل عملية الدين المطَمْئِنة، بعلميّته التنظيميّة على ثلاثة صُعُد أيضًا. فينظِّم الدين حياة الفرد والجماعة من خلال القيم والقوانين المبنيّة على هذه القيم، والتي ترسم الخطوط العريضة للعلاقات الاجتماعية، ولعلاقة الإنسان بالخليقة، وبالأرض. كما ينظّم الدين الزمان، فينسّق السَّنة من خلال الأعياد، والطقوس، والأيام المقدّسة؛ ويرتّب الأسابيع، والأيام، من خلال أوقات الصلوات، أو الطقوس الفردية، أو الجماعية؛ ويواكب الأوقات الأساسية في حياة الإنسان، كالولادة، والموت، وسن البلوغ، والزواج، أو تكريس الذات، بطقوس خاصة بهذه المناسبات. وكما ينظّم الدين الزمان، فإنه ينظّم المكان بإضفاء قدسيّة على مساحات جغرافيّة، أكانت أماكن حجّ، أم دُور عبادة، أم مزارات، أم أبنية رمزيّة، أم مساحة في مساكن الأفراد تُخصّص للصلوات أو العبادة.

ويقدم أخيرًا كلُّ دين، أشخاصًا من الماضي، أو من الحاضر، هُم المُثُل للحياة الروحية والإنسانيّة، أو صِلات الوصل بالماورائي.

وإذا تأمّلنا في كلّ ما سبق، رأينا أنّ لكلّ ديانة منطقها الخاص، بُني على ما تُقدّمه من نظرة تفسيريّة للكون، والحياة، والماورائيات. إذ إنّ كلّ دين يَعترف بالبُعدَيْن: المنظور (أي الجسدي، والمادي)، واللامنظور (أي الماورائي، والروحي)، ويقدّم تفسيره لهذين البُعدَين، ولعلاقتهما. كما يقدّم كلُّ دين رؤيته للماضي وللمستقبل، بين المنظور، والماورائي، فيقدّم سردًا لتاريخ الشعب المنتمي إلى الدين على هذه الأرض، كما يقدم سردًا لتاريخ الإنسان قبل هذه الأرض، و يقدّم تنبُّؤًا بمستقبل هذا الشعب، أو شعوب العالم كافّة أيضًا، على هذه الأرض، وما بعدها، أو ما خارجها.

وتتكوّن قصصنا التفسيرية لهذه الأمور، ضمن وحدة خاصّة مترابطة نرث منطقها أبًا عن جدّ، وأُمًّا عن جدّة، فنراه طبيعيًّا، واضحًا، مُبِينًا، ومنطقيًّا، إلاّ أن الناظر من ديانة أو فلسفة حياة أخرى، لا يرى منطقنا بهذا الوضوح، كما أننا لا نَفْقه بسهولة، منطق الديانات الأخرى الغريبة عنا، إيمانيًّا، وثقافيًّا.

فالاعتراف بأنّ للآخر -المنتمي إلى ديانة أخرى-، منطقَه الديني الخاص، كما أنّ لي منطقي الديني الخاص، هو نقطة أساسيّة لبدء العمل على تحسين عمليّة التواصل، إذ يجبرني -عندما أتحدّث استنادًا إلى منطقي الديني- على أنْ آخذ بعين الاعتبار، أنّ الآخر لا يعرف منطقي، كما أنني لا أفهم منطقه عندما يتحدّث من منطلق منظومته الدينيّة؛ وهذه النقطة تدفعنا إلى العمل على التوضيح المتبادل.

ويساعدنا ذلك على أن نعي بأن منطقنا الديني، وانتماءَنا إلى جماعة دينية وثقافية معيّنة، واتّباعنا لرموزها، يؤثّر ليس فقط في كيف نقرأ الكونيّات، بل كذلك في كيف نستقرئ التاريخ، والمستقبل، والحاضر، بما فيه الأوضاع الراهنة، سياسيّة كانت، أم اقتصادية، أم اجتماعية. فكما لكلٍّ منّا منطقه الديني، فلكلٍّ مِنّا نظّارته الثقافيّة، والدينيّة، التي من خلالها يقرأ، ويفهم، ويفسّر ما حوله.

إن الوعي بذلك يدفع الفرد إلى الاعتراف، بأنه حتى ولو كانت ديانته تجيب عن الأسئلة الكونيّة، فإن منطلق كلّ فرد ليس كونيًّا، بل يخضع لمنطق خاص، ولواقع ديني ثقافي متأثر بالبيئة التي ينتمي إليها، والتي تؤثّر فيه، والتي يؤثّر هو بدوره فيها.

فكلَّما اعترف الفرد بأنّه لا يملك نظَّارةً كونيّة، سعى ليفهم نظَّارته، ونظَّارة غيره؛ وكلّما سعى، اتسعت الرؤية.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive