الرجوع

لِنَقِفْ وِقفةً صادقة

الأحد

م ٢٠١٨/٠٥/٢٠ |

هـ ١٤٣٩/٠٩/٠٦

 

أثناء مشاركتي في إحدى وَرَشات تدريبِ مُدرِّبِي المواطَنة الحاضنة للتنوع الثقافي والديني، والتي شاركتُ فيها انطلاقًا من إيماني العميق بمبادئها، وحرصي على أن أرسم لنفسي دَورًا في نشر هذه الثقافة، في مجتمعاتنا المفتقِرة إلى مِثل هذه المفاهيم، وجدتُ نفسي –يا للأسف- فريسة هذا التقوقع الوحشي، الذي يَسُودنا ويلتهمنا يومًا بعد يوم.

وأيضًا أثناء اشتغالي بأحد تمارين الورشة، والذي كان يتطلَّب مني كفردٍ من مجموعة تنتمي إلى طائفة معينة، أن أعمل على صياغة مجموعة أسئلة لأقوم بتوجيهها إلى زملائي من الأديان والطوائف الأخرى، وجدتُ أنني كنتُ حريصة جدًّا على اختيار أصعب الأسئلة، التي قد لا يتمكن المتدربون من الإجابة عنها، أو التي يمكن أن تحصرهم في زاوية ما، وربما تستفزَّهم وتحشرهم في مأزق يصعب الخروج منه. لم أعِ حينها السببَ الذي كان يدفعني إلى القيام بذلك، ولكن حين جرى عرض النتائج ومناقشتها، ساءني في الواقع ما قمتُ به، وجلستُ أفكِّر مطوَّلًا. فإنْ كان هذا خطابي لِمَن تَجْمع بيني وبينهم المودّة، فكيف سيكون الخطاب لِلغريب؟! وتساءلتُ: لو كان هذا النوع من الخطاب هو المهيمِن على كلامي مع الآخر المختلف، فكم سأساهم -ربما من حيث لا أشعر- في تصديعٍ للعلاقات، وفي تفكيك لأواصر المحبة؟! ثمّ إنّ هذا الأثر السلبي يَصدر عني، أنا التي أدّعي حمل همّ التعايش مع الآخر وقبوله، فكيف بمن لا يعنيه هذا الأمر، ولا يُعيره أدنى اهتمام؟!

مكثتُ أفكّر طويلًا في هذا الأمر، وتشكّلَت في ذهني صورٌ للأثر السيِّئ الذي قد يُنتجه هذا الخطاب، فكانت الصورة المتشكّلة مُفزعة ومخيفة. ولعلّ هذه الصورة لم تكن لِتَتشكّل، ولم أكن لأدرك مقدار الأثر السلبي لها، لولا خوض هذه التجربة المهمة. ولكنّني ممتنّة الآن لهذه التجربة، التي حملَت في طيّاتها درسًا وفائدة، وكانت سببًا مباشرًا لكي أنتبه لخطورة هذه المسألة ودقّتها.

إنّ الفائدة من هذه التجارب، هي أنها توفّر لنا مناخًا يسهّل علينا عملية اكتشاف أفكارنا السلبية والخاطئة، التي لها جذور ضاربة في أعماق فكرنا، والتي تَشكّلَت وترسّبَت من خلفياتٍ وأفكار سائدة ومتراكمة، حيث اخترقت اللاوعي، الذي يشكّل نظرتنا وسلوكنا تجاه الآخر المختلف.

إيماننا بالعيش المشترك مع الآخر، ينبغي أن يجعلنا نتخلَّى عن "حِرصنا" الدائم على تغيير الآخر، أو تغيير معتقداته لكي تتفق مع معتقداتنا. التعايش مع الآخر يعني أوَّلًا أن نسلّم بحقيقة وجود التنوّع، ومِن ثَمّ أن نحيا مع الآخر المختلف متقبّلين اختلافه، مهما بدا لنا رأيُه أو اعتقاده مخالفًا لنا.

إنّ الورشة أعادت رسم الكثير من المفاهيم في ذهني. لذلك، أشعر اليوم بضرورة التأمل الصادق في نوايانا، وفي ما نطمح إلى تحقيقه من التعايش مع الآخر، لأنّني اكتشفتُ أنّ الكثير من أفكارنا وخطاباتنا تجاه الآخر المختلف، قد تَأَسَّس بفعل عوامل كثيرة ومتشابكة. ولعلَّنا نجهل مصدر الكثير من تلك العوامل ودرجة تعقيدها، لكنّها قد أحكمَت هيمنتها على "لاوَعْيِنا" وطرائق تفكيرنا. وهذا التأمل، إنْ بُني على مفاهيم جديدة، وتحرَّر من سطوة العصبيات الواضحة وأيضًا الخفية، فإنّه حتمًا سيفتح أمامنا أفقًا معرفيًّا جديدًا، وسبيلًا أكثر سَعةً في التعايش المشترك.

إنِ استَوعَبْنا القيمة الكبيرة للاختلاف، وتعامَلْنا معه كإضافة نوعية إلى مجتمعاتنا وإلى نوعنا الإنساني، فإنّ ذلك حتمًا سيعيد تأسيس معايير جديدة لنا في نظرتنا إلى الآخر المختلف. وإن استوعب الواحد منّا أنّه جزء من سلسلة إنسانية كبيرة، تتجاوز انتماءه ومعتقده وطائفته، فإنه حتمًا سيتمكن من التواصل الحيوي مع المختلفين عنه، بل وقد يتحوّل إلى سفير لنشر هذه المفاهيم في محيطه.

أعُود لأختم من حيث بدأت، من التدريب الذي شاركتُ فيه، لِأَطرح الأسئلة الآتية: في كل مرة أختلِف فيها مع أحدهم في نقاش ما، ما هدفي من هذا النقاش؟ وما دوافعي؟ هل ذلك لكي أُثبِت له أمرًا ما، وأعبّر له عن رفضي لوجوده ومعتقده، أم لأُحقِّق فائدَتَين: فكرية وإنسانية معًا، ولأُؤكِّد أن اختلافنا في النقاش، هو في الحقيقة جزء من صورة جمالية وإنسانية رائعة؟

لا يوجد سبيل إلى أن نكُون نوعًا واحدًا، تمامًا كما لن تكون اللوحة جميلة إنِ اكتست لونًا واحدًا فقط. ثَبِّت هذه القناعة في قلبك، وزِنْ قلبك بعد ذلك، ستجده قد ازداد سَعَة.

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive