الرجوع

ما معنى أن نقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”؟

الإثنين

م ٢٠١٨/٠٩/٠٣ |

هـ ١٤٣٩/١٢/٢٣

بدأ أحد الأساتذة الكبار مُحاضرته بقوله: "لن أبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم. فمَن أكُون أنا لأتكلَّم بِاسم الله؟ أنا أتحدَّث بِاسمي الشخصي فقط، وأتحمّل وحدي مسؤوليَّة كلامي كاملة". لقد كان تصريحُه مفاجأة للعديد من الحاضرين. فقد تَعوّد الناسُ تلك الدِّيباجةَ التي تزيِّن الكلام، وتُضفي عليه شيئًا من الجِدِّيّة، وكأنّ الأمر مجرَّد عادة تَسبق الكتابة أو الخطابة أو حتى الأكل والشرب، ولا يلتفتون إلى معناها العميق.

أتفَهَّم قول الأستاذ، لأننا نعيش في عصر بات الحديث فيه بِاسم الله "عادة سيِّئة"، يُخفي وراءها بعضُهم جرائمَهم وكذبَهم وجهلهم. فأصبحَت البسملة غِطاءً يُخفي تحته بعضُهم أوساخَهم، مُضْفِين على هُرائهم نفحة قُدسيّة مزيَّفة. وأيضًا أشار الأستاذ إلى مبرِّر وجيه لاختياره، وهو أن البسملة اكتسبَت عند بعضِهِم بُعدًا تسلُّطيًّا. فلِلحديث بِاسم الله سُلطة دينية قهريَّة، يَصعب الاعتراض عليها أو مناقشتها. وهنا، تكمن الخطورة في ادِّعاء الإنسان لِسُلطة لا يملكها، ويريد من خلالها إخضاع الآخرين والهيمنة عليهم؛ فتتحوَّل البَسْملة من بَسْملة إلهيّة، إلى حديث بِاسم الأنا والشيطان. عندئذ تُصبح عَرَضًا من أعراض تضخُّم الأنا، ومرَضًا قاتلًا من أمراض التديُّن.

لكِنْ، ومع كلِّ هذه المخاطر، فأَنْ يَشْرَق الإنسانُ بالماء، لا يُلغي قيمة الماء. فللبسملة معانٍ تستحقُّ أن تُعرف ويُعمل بها، بل هي في نظري تمثِّل جوهر التجربة الدينية. البسملة تعني أنني لا أنطلق من ذاتي ومصالحي الشخصية وأهوائي الأنانيّة، بل أنطلق من الله تعالى، من مصدر القيم الذي له المَثل الأعلى. البسملة هي إعلان الإنسانِ افتقارَهُ إلى الرحمة الإلهية، فيُفسح لها المجال لتَتنزَّل. والرحمة هي الالتزام الإلهيُّ الوحيد: {كتب ربُّكُم على نفسهِ الرَّحمةَ} [الأنعام: 54]، وهي العِلَّة الغائيَّة للدِّين: {وما أَرسَلنَاكَ إلَّا رحمَةً لِلعالَمينَ} [الأنبياء: 107]. فهي القيمة الناظمة لكلِّ القيم الأخرى.

هناك قول منسوب إلى الإمام عليِّ بن أبي طالب، وإلى بعض الصوفيَّة مثل الشِّبلي وغيره، يَعتبر أن كلَّ القرآن مُلخَّص في الفاتحة، وأن سرَّ الفاتحة في البسملة، وأن سرَّ البسملة في الباء، وأن سرَّ الباء في النقطة التي تحتها. ثم يضيف صاحب القول: "وأنا النقطة التي تحت الباء". لا تَعنِيني هنا صحَّة النسبة، بل ما يَشدُّنِي هو معنى العبارة التي تبدو مُلْغَزة أوَّلَ وهْلَة. النقطة تَرمز إلى اللَّاشيء، إلى الصِّفر. فمن يَقُلْ "بسم الله الرحمن الرحيم"، فإنما يُعلِن فَناءَه، وتخلِّيَه عن الأنا الحاجبة، حتى يُفسح المجال لرحمة الله في أن تتجلَّى في قوله وفعلِه. ومن دون هذه التَّخْلية لا مجال للتَّحْلية، أي التحلِّي بِجَمال الصفات الإلهية المتمثِّلة بالرحمة. وذلك القول في الوقت نفسه، معنى شهادة أن "لا إله إلا الله". فالشَّهادة تَجمع بين النفي والإثبات، أيْ نَفْي الآلهة الزائفة التي تملأُ قلوبَنا وعقولنا وعوالمنا الصغيرة، والتي تَمنعنا من التحقُّق من وجود الله، ومن حضوره في حياتنا.

التفسير الأجمل لقصة سليمان وملكة سَبَأ في القرآن الكريم، ولِنَقْلِه عَرْشَها من بعيد وتنكيره لها عند زيارتها، الواردة في سورة النمل (الآيات: ١٥-٤٤)، هو ما ذكره جلال الدين الرومي في "المَثْنَوِي". فقد كانت غاية سليمان هي أن يحرّر الملكة من التعلُّق بعرشها، الذي يَرمز إلى الأنا والسلطة والجاه. وكلُّها أمور تَجعل الأنا متضخِّمة، رغم كلِّ صفات الكمال التي كانت تتحلّى بها الملكة. فكان عملُ سليمان، هو دفعُ الملكة إلى سلوك الطريق إلى الله عبر التخلّي. فبَعد التخلّي يأتي التجلّي، أي رؤية الله في بهائه وجماله. يقول الرومي: "هذه هي (لا إله إلا هو) أيها الملاذ، هي التي تُبْدي لك القمر كأنه قِدْر أسود. لم تكن [الملكة] تَأسف على مالٍ قطّ ولا على كنوز ولا على ثياب، لم تكن تأسف إلا على العرش. فعَلِم سليمان خبر قلبها، فقد كان هناك طريق بين قلبه وقلبها!".

كلُّ واحد منَّا يَحمل في نفسه مشروع مَلِك، ولكنه مَلِكٌ زائف ما دام جالسًا على عرش أنانيَّته الثقيل. فلا بد من الحركة والسفر وتحريك ذلك العرش، ليصبح خفيفًا كالرِّيش. هنالك فقط يتجلَّى للإنسان جمال صاحب العرش العظيم، فيكتمل معنى "لا إله إلا الله". معنى أن يؤمن الإنسان بالله، هو أن يتحوَّل ذلك الإيمان إلى غيث نافع يَمكث في الأرض والقلب. فما معنى الإيمان من دون أن يُحدث تحوُّلًا، يجعل الإنسان أكثر قدرةً على الحبِّ، وجِسرًا للرحمة الالهية؟

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive