الرجوع

ما يَعِدُ به الجيلُ الجديد

الإثنين

م ٢٠١٨/٠١/٠٨ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٢١

يهجو كثيرون الجيلَ الجديد من الشباب بوصفهم "لا يعرفون ماذا يريدون"؛ لأنهم يعيشون عصرَ تكنولوجيا المعلومات، وثورةَ الفيسبوك، ووسائل التواصل المختلفة التي تضمحل في فضائها حدودُ المكان، وينبثق منها عالَمُ مفاهيم مختلف، ويتخذ فيها الزمانُ، والثقافةُ والمعرفةُ أيضًا، مفهومًا جديدًا. وربما تمادى بعضُهم في توصيف جيل الشباب بالغباء والضياع واللاانتماء واللامسؤولية عن كلّ شيء، ويمتدحون جيلِي والأجيالَ التي هي أكبر عمرًا، بوصفها "تعرف ما تريد"؛ لأن خياراتِهم في المُعتقَد والأيديولوجيا والانتماء كلَّها محسومةٌ سلفًا.

وأظن أن هذا التوصيفَ يخطئ مرتين. يخطئ في المرة الأولى عندما يصف الجيلَ الجديدَ بالضياع، وبأنه "لا يعرف ماذا يريد"؛ لأن عقلَ الشباب اليوم أنضجُ، ووعيَهم للحياة أعمقُ من وعينا حين كنا في مرحلتهم العمرية. عالمُهم مركّب وعالمنا بسيط، عالمهم متنوّع وعالمنا أُحادي، عالمهم نسيجٌ معقد تتلاقح فيه الهوياتُ وتتفاعل فيه الثقافات، ويتوحّد في مَوكب واحد. إنه عالَم تتوارى فيه الحدود؛ أما عالمنا فيزدحم بالحدود. ومع اتساع الفردية وترسُّخها في عالمهم، إلّا أن كلّ فرد منهم في وسعه أن يتحدّث إلى الكلّ، بل في وسع الكلّ أن يتحدث إلى الكلّ.

أسئلتُهم صعبةٌ تشبه عالَمَهم؛ أما أسئلتُنا فكانت مبسطةً تشبه عالَمَنا. قناعاتُهم لا تولد بسهولة كما كانت قناعاتُنا، وقلما يصدّقون الأوهامَ مثلما كنا نصدّق كلَّ ما يُكتب ويُقال. لا يتشبّثون بالأحلام كما كنا نتشبّث بقشة، ولا يَصِلون إلى اليقين بسهولة، خلافًا لما كنا عليه من فهمٍ ساذجٍ يسوقنا إلى تصديق الكثير من الوعود الزائفة والأخبار الكاذبة، وما تنسجه المخيلةُ من أحلام رومانسية. الانتماءُ إلى معتقَد أو أيديولوجيا أو فكرة، لا يتطلّب منا غيرَ حديث يتكلّمه محامٍ بارعٌ في صناعة الكلام. لِفَرط رومانسيتِنا ضِعنا وضيّعنا الأوطان، ولفرط واقعيتِهم ما زالوا يفتّشون بعناد عن دروبٍ للخلاص لا تكرّر متاهاتِنا.

ويخطئ هذا التوصيفُ في المرة الثانية عندما ينعتُ جيلَ الآباءِ بأنه "يعرف ما يريد"، إذ كيف يعرف ذلك الجيلُ ما يريد، وهو لم يكتشفْ حتى ذاته الفردية؟! فقد أنْسَته الأساطيرُ المؤسِّسةُ لمتخيَّلِه الثوريّ ذاتَه. كان جيلُ الآباء مولعًا بِيُوتوبياتِ الخلاص للكلّ، والحريةِ للكلّ، وانصهارِ الكلّ في واحد. كان يَحسب أن تغييرَ العالَم تُنجزه مجموعةُ شعاراتٍ وأناشيدَ تعبويةٍ تَنشُد تجييشَ الجماهيرِ وخروجَها إلى الشارع تهتف "بالروح بالدم نفديك يا..."! وهذه النزعةُ قادت ذلك الجيلَ إلى أن تستعبدَه أصنامٌ مختلفة، كلٌّ منها يظهر على المسرح الاجتماعي بقناعه الخاص، فتارة يصير رجلٌ صنمًا، وأخرى تصيرُ أيديولوجيا صنمًا، وثالثة يصير كتابٌ صنمًا، وكلُّ صنمٍ منها يَستعبدُ مَن على شاكلته.

الكثيرُ من الآباء مولعٌ بعبادةِ الأصنام البشرية، وإن لم يجد بعضُ الآباء صنمًا في الماضي يخضع له ويستعبده، ينحت لأحد رجال السياسة أو الدين أو الفكر أو الأدب صنمًا. الكثيرُ من الأبناء مولع بتحطيمِ الأصنام البشرية؛ لذلك يصعب ترويضُهم على العبودية.

الجيلُ الجديد من الشباب اكتشف ذاتَه الفردية مبكرًا، وأدرك أن نسيانَ الذات ضربٌ من الضياع في أوهام لا تنتمي إلى الواقع؛ وذلك ما كرّس النزعةَ الفرديةَ في وعيِه وشعورِه وشخصيتِه، فأصبح عصيًّا على استعبادِ الأصنام في مختلف صورها.

جيلُ الأبناء أكثر قدرةً من الآباء على الاعتراف بالخطأ، وإن كانت وما زالت تربيتُنا في البيت والمدرسة والمجتمع والجامع والجماعة، لا تربّينا على شجاعةِ الاعترافِ بالخطأ. الاعترافُ بالخطأ ضرورةٌ يفرضها الانتماءُ إلى العالَم اليوم، ودعمُ الأبناء في حضورهم الديناميكي الفاعل في عالمهم.  مع أن الآباءَ هم نموذج الأبناء، لكن أنا شخصيًّا لم أسمع من أبي "رحمه الله" إلى حين وفاته، اعترافًا بخطأ في حياته، أو ندمًا على ممارسةٍ عنيفة معي أو مع والدتي أو إخوتي؛ أما أنا فكنتُ أخاف من الاعتذار عن العنف الجسدي أو الرمزي أو اللفظي، الذي أتورط فيه مع أبنائي في طفولتهم، وواصلت الهروب من الاعتراف بأخطائي إلى العقد الرابع من حياتي، بل كنت أشعر بحرجٍ وألمٍ شديدَيْن لو لمحتُ أو سمعتُ إشارةً أو عبارةً ترشدني إلى أخطائي، فضلًا عن أني كنتُ عاجزًا وقتئذ عن البوحِ بها، ولم أتعلّم ذلك إلّا بالتدريج وبمشقّة بالغة ومعاناة موجعة، عندما بدأت أتحرر من سجوني قبل ثلاثة عقود.

وأيضًا لم أسمع من معلّمي في الابتدائية، الذي كان يعنّف زملائي التلامذة بأسلوب مستهجن، اعترافًا بخطأ، أو ندمًا على عنفه الجسدي القاسي المتكرّر بحقّ تلامذته، كما لم أسمع أيَّ شيء من ذلك من أحد من أساتذتي في مراحل تعليمي المختلفة، إذ كانوا دائمًا يتكتمون على ما يقترفونه، بل وجدتُ أكثرَ آبائي وأساتذتي يتحدّث أو يوحي بصواب كلّ فعل أو قول صدر عنه، وهكذا هي مواقفُ حكّام بلدي أو قادةُ جماعتي، وكأن الكلَّ كامل. ما زلنا ننظر إلى الخطأ بوصفه عاهةً أو عارًا أو فضيحة؛ لأن حقَّ الخطأ الذي هو ضرورةٌ في كلّ عملية تربوية ناجحة تفرضها طبيعةُ الكائن البشري، ليس مكفولًا لأحد في مجتمعنا.

ومع كلِّ ثَنائي على ما يَعِدُ به الجيلُ الجديدُ وعصرُه، لكني أودّ أن أشيرَ إلى أنه لا يمكننا التنبؤ بما يفاجِئُنا به الغدُ من خساراتٍ وانتكاساتٍ تُحْدثها منعطفات للتاريخ غير محتسبة؛ لأن التاريخَ البشري لا يسير في خطّ تصاعدي أبدي، ولا يتقدّم إلى الأمام باستمرار، فقد يتوقف لحظةَ تقدّمه، أو قد ينكص فينتكس لحظةَ صعوده، إذِ انهارت حضاراتٌ كبيرةٌ ما كان متوقعًا انهيارُها، وغربت شمسُ إمبراطوريات ما كان متوقعًا أفولُها، وانهزمت دولٌ بعد أعظم انتصاراتها، وتمزّقت أممٌ لبثت قرونًا طويلة مسكونةً بتفوقها. وهكذا، ليس في وسع الإنسان أن يتحكم في مصائره كلّيًّا، فيرسم لها خرائطَ الغد التي تتغلّبُ فيه على مفاجِئاتِ التاريخ المباغِتة.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive