الرجوع

من مراكش إلى واشنطن: مسيرة أنسنة للأديان

الخميس

م ٢٠١٨/٠٢/١٥ |

هـ ١٤٣٩/٠٥/٣٠

 

اِنعقد في العاصمة الأميركية واشنطن من 5 إلى 7 شباط/فبراير 2018، مؤتمرٌ جامع لشخصيّات دينيّة بارزة من الأديان الإبراهيمية، تحت عنوان: "حِلْف الفُضُول من أجل الخير العام". وقد اعتُمد تعبير "الفُضول" للدلالة من ناحية على الفضائل التي تدعو إليها الأديان، وللتذكير بالحِلْف الذي قام في مكة وحَضرَهُ النبي محمد قبل بداية الدعوة الإسلامية، من ناحية أخرى. لقد كان هذا الحِلف تجمّعًا وميثاقًا إنسانيًّا تَنادَى له أهلُ المروءة في مكّة، بعد حادثة ظُلمٍ لأحد التجّار؛ وذلك لنصرة الإنسان المظلوم، والدفاع عن الحق، ويُعتبر من مفاخر العرب قبل الإسلام.

جاء في البيان الختامي للمؤتمر الذي حمل عنوان "إعلان واشنطن": "رؤيتنا اليوم تقوم على تجديد لِحِلْف الفُضول، بشكل عالمي ومنفتح على كل رجل وامرأة من أي معتقد أو إثنية أو قومية... لعمل جامع في خدمة السلام المستدام، والعدل، والتعاطف، والاحترام المتبادل". ويَعْزِي المؤتمرون هذه الخطوة إلى الحاجة اليوم إلى الذهاب إلى ما هو أبعد من التسامح، لكي يُسهم المؤمنون من مختلف الأديان في تحقيق المصالحة في المجتمعات، وتضميد الجراح الناتجة من الصراعات والعنف.

لم يكن هذا الإعلان لِيَأخذ الأهمية والمصداقية اللَّتَيْن يصبو إليهما، لو لم يؤكّد التزامَه مبدأين أساسيّين: الأول يكمن في الاعتراف بالمساواة الأصيلة بين جميع الناس دون أي تمييز؛ والثاني يكمن في الاعتراف بشِرعة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما فيها من حرية الضمير، والحرية الدينية.

ليس غريبًا ولا جديدًا أن تلتقي مجموعة من كبار العلماء في الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، للحوار حول مسائل ذات أبعاد إنسانية، ولتأكيد المشتركات، وللدعوة إلى التعاون بين أتباعهم من أجل إحقاق العدل والسلام. ولقد اعتاد المتابعون البياناتِ المشتركةَ بين القادة الدينيّين، التي غالبًا ما تبقى بدون أية فعالية أو تأثير في الجماعات الدينية نفسها، وفي مجتمعاتها. لا بل يعتقد بعضهم أن هذه المؤتمرات والبيانات الصادرة عنها، تُخفي في الحقيقة الإصلاح الحقيقي المطلوب داخل الأديان، لكي تصبح تعاليمها الداخلية متطابقة فعلًا مع المبادئ والقيم، التي تعلنها في مثل هذه النصوص والأدبيات الحوارية المشتركة.

لكن، ما يُميّز هذا المؤتمر، كما تَميّز المؤتمر الذي سبقه في مدينة مراكش المغربية في 2016، هو الالتزام الصريح للمبادئ التي يقوم عليها الاجتماع الإنساني السليم في عالمنا الراهن، والتي نحتاج إلى تعزيز ممارستها وتطبيقها، واعتمادها بدون أي لبس من قِبل المؤسسات الدينية والاجتماعية والسياسية على حدّ سواء. فالتزام ممثّلِي الأديان الإبراهيمية في إعلان واشنطن المساواةَ المطلقة بين جميع الناس، وشِرعةَ حقوق الإنسان بما تشمل من تأكيدٍ لحرية الدين والمعتقد، يُشكّل خطوة متقدّمة في التلاقي بين الخطاب الديني، والأدبيات القيميّة والقانونية، التي أنتجتها الإنسانية في الحقبة المعاصرة. يأتي هذا الموقف مكمّلًا لما جرى تأكيدُه في "إعلان مراكش" في 2016، والذي استند إلى مرجعيّة "صحيفة المدينة" التي أقامها النبي محمد مع أهل المدينة. فقد تَميّز إعلان مراكش باعتماد مبدأ المواطنة كأساس لقيام المجتمعات، والعيش معًا بين الناس على اختلاف انتماءاتهم الإثنية والثقافية والدينية، بشكل يتخطّى مفهومَي الأكثرية والأقلية المرتبطَيْن بالمجموعات الطائفية، ويدعو إلى اعتبار هذا التنوّع مكوّنات مختلفة لأمّة وطنيّة واحدة.

من مراكش 2016 إلى واشنطن 2018، وبفضل جهود الشيخ العلَّامة عبد الله بن بيّه، والنشاط المميّز لمنتدى تعزيز السِّلم في المجتمعات المسلمة الذي يرأسه الشيخ بن بيّه نَفسُه، نلحظ تقدّمًا في مفهوم الحوار بين الأديان، بانتقاله من تأكيد المشتركات بين الأديان، إلى التأصيل المشترك للمفاهيم والقيم التي تأسّست عليها المجتمعات الحديثة. وقد يتوجّس بعضهم من اعتماد الأديانِ هذا الخطابَ ذا الأبعادِ السياسيّة والقانونيّة، خوفًا من محاولة "تديين" الحياة العامة، التي قامت بمفهومها الحديث على التمييز بين المجال العام، والفضاءات الدينية الخاصة. لكن، برأيي نجد في إعلانَي مراكش وواشنطن، مسيرةً فكريّة وقيميّة تعزّز أنْسَنة الأديان، لكي تكون حقًّا في خدمة الإنسان والخير العام. فعندما يتبنّى الخطابُ الديني، أيًّا كان هذا الخطاب، مفاهيم المواطنة والحرية الدينية وحقوق الإنسان، ويؤصّل لها انطلاقًا من تراثه الروحي ومراجعه الخاصة، فإنه يُسهم في تعزيز الرأي العام المناصر لهذه المفاهيم. وأيضًا يساعد هذا الخطاب المتجدّد على تحقيق التلاقي بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية، حول مصلحتهم المشتركة، ومسؤوليتهم الوطنية والدينية عن توطيد العدل والسلام، وتحقيق الخير العام.

 

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive