الرجوع

مَن هو العربي؟

الخميس

م ٢٠١٧/١١/٢٣ |

هـ ١٤٣٩/٠٣/٠٥

 

السؤال مُلحٌّ لأنّ العروبة في أزمة. رُبّ قائل بأنّ ما أقول عنه أزمة هو من طبيعة العروبة، لا بل من طبيعة تكوين الحضارات، إذ إنّ الحضارة تُعبّر عن واقع متحرّك، يصعب تحديد حدوده، وضبط تعريفاته. فالحضارة الأوروبية أيضًا تجد نفسها أمام صعوبة تحديد معالمها بشكل دقيق وجامع. لكن مع ذلك، لا يتردّد كلٌّ من الصربي أو الفرنسي أو اليوناني في أن يقول بأنّه أوروبي، في حين نجد هذا التردّد اليوم لدى بعض أهل الدول العربية. تتعدّد أسباب هذه الأزمة، ومن أهمّها: أولًا: تراجع القوميّة الإيديولوجيّة العربيّة؛ وثانيًا: فشل قيام الدول العادلة والديمقراطية في أغلب الحالات في النطاق العربي؛ وثالثًا: الالتباس في العلاقة بين الثقافة العربية والحضارة العربية من جهة، والعلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة العربية من جهة أخرى.

إنّ تراجُعَ الأنظمة التي قامت في القرن العشرين على أساس القومية العربية، أو انهيارَها، ترَكَا فراغًا تتنازع القوى المجتمعية في مَلْئه بشكل عشوائي، وحتى عنيف في بعض الأحيان. ربما المثال الأوضح وليس الأوحد على ذلك، هو الواقع العراقي، بعد التراجع التدريجي للنظام البعثي وصولًا إلى سقوطه النهائي. فبعدما كانت العروبة أساس الانصهار الوطني ومحور تحقيقه، الذي أخذ في بعض الحالات أشكالًا عنيفة من القمع والترهيب والتطويع، في محاولة لفرض وحدة قومية تكون أداة للإمساك بالسلطة السياسية، تَبيّن أنّه بانهيار النظام السلطوي والقمعي؛ تبعثرت معه قدرة العروبة على توحيد المجتمع العراقي، فأصبحت تَتنازعه اليوم تيارات إيديولوجية مختلفة، من دينيّة وإثنية، تحاول ملء الفراغ، وتعيد تشكيل وعي الأفراد وبيئتهم المجتمعية على أسس جديدة، كالتشيّع، والهوية الكردية، والخصوصية المسيحية الأشورية.

أما فشل قيام الدول العادلة والديمقراطية في النطاق العربي، فدفَع عددًا لا يستهان به من أبناء هذه الدول إلى الهجرة، ليس فقط الاقتصادية بل أيضًا الثقافية، أعني بالانتقال جغرافيًّا إلى منطقة أخرى من العالم، وبالتخلي عن الارتباط الحضاري بالمجتمع الأصلي واستبداله بانتماء وولاء للمجتمع الجديد المختار. ولكن هذا الفشل السياسي دفع أيضًا بقسم آخر من أبناء هذه الدول إلى اختيار ولاءات أخرى، غير الولاء للدولة، بحجة الارتباط الديني بدول أخرى؛ ما شكّل عوامل انشقاق طائفي ومذهبي ضمن المجتمع الواحد.

وأيضًا الضبابية المرتبطة بمفهوم العروبة وأبعاده الثقافية والحضارية والدينية، جعلت علاقة بعضهم ملتبسة أو حتى سلبيّة بذاك المفهوم. فعلى سبيل المثال، أثار انضمام الصومال وجيبوتي إلى جامعة الدول العربية جدلًا بين الدول العربية، على اعتبار أن لغتهما الرسمية ليست العربية، ولكن مجلس الجامعة رأى أنّ أصل الشعبين عربي، فقبِل عضويتهما. والإشكال هنا يكمن في تحديد الأصل العربي للشعوب، إذ هذا المعيار قد يجعل ملايين العرب اليوم خارج هذا التصنيف، على مثال الأمازيغ في دول شمال إفريقيا، وغيرهم. ففي منطقة عرفت خليطًا مستمرًّا بين شعوبها منذ آلاف السنين، يصعب الحديث بأصول عرقية كمعيار للانتماء السياسي.

لا بد إذًا من الاعتراف بأن مفهوم العروبة اليوم يختلف عما كان عليه سابقًا. فوجود العرب كشعب ضاربٌ في القدم، وقد أتى على ذكرهم الكتاب المقدس لدى المسيحيين في عهدَيْه: القديم (سفر النبي أشعيا 13: 20) ويعود إلى أكثر من 600 عام قبل الميلاد؛ والعهد الجديد في القرن الأول ميلادي (سفر أعمال الرسل 2: 11). لكن العروبة انتقلت من هذا المفهوم الإثنِيِّ إلى مفهوم ثقافي مرتبط بتطوّر اللغة العربية وانتشارها الواسع، وتَبنِّيها من شعوب كثيرة في المنطقة، حيث اختلط الأعراب بالمستعربين؛ ليشكلوا ثقافة واحدة منتشرة في مساحة جغرافية واسعة. أما الأزمة الراهنة، فبرأيي تكمن في فشل الشعوب العربية، بالمعنى الثقافي للكلمة، في تكوين الحضارة العربية بما يتلاءم مع مقتضيات المفهوم وفق ابن خلدون، إذ يعتبر في مقدمته الشهيرة أن الانتقال من العصبية القبلية إلى العمران الحضري، يمرّ ببناء الدولة الراشدة، التي تتميّز بشكل أساسي بالأمان والعدالة الاجتماعية.

للخروج من الأزمة الوجودية إلى مسألة العروبة، يقتضي اعتماد مفهوم حضاري للعروبة، يكون جامعًا للتعدد الإثني والثقافي والديني والفكري، وقائمًا على منظومة قيميّة جامعة تدفع في اتجاه قيام دول عادلة وديمقراطية، على أسس المواطنة الحاضنة للتنوّع. يترافق ذلك مع تطوير اللغة العربية لكي تبقى أحد أهم العوامل بِبُعدَيها اللغوي والثقافي، الجامعة بين المجتمعات العربية، مع المحافظة على التنوّع اللغوي الذي في داخلها. فعندما تُصبح العروبة حضارة جامعة للتعدد الإثني والثقافي والديني، وقائمة على منظومة قيمية مؤسسة للعدل والإخاء والسلام، يتحقّق العمران، ولا يتردّد أيٌّ من أبناء هذه الحضارة في المجاهرة بعروبته، أكُرديًّا كان أم أمازيغيًّا، أم سوريًّا، أم خليجيًّا، أم مسلمًا سنيًّا أو شيعيًّا، أم مسيحيًّا سريانيًّا أو بيزنطيًّا.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive