الرجوع

نحو تأسيس لاهوت الرحمة الإسلامي

الإثنين

م ٢٠٢٠/١٠/٠٥ |

هـ ١٤٤٢/٠٢/١٨

إن الحديث في مفهوم الرحمة في الإسلام ليس مستحدَثًا اليوم؛ إذ أكد القرآن في مواضع كثيرة صفة رحمة الله، بل قد نعتبرها أكثر تكرارًا في سُوَره. أيضًا جعلها نواة الرسالة المحمدية وهدفها: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالَمين} [الأنبياء: 107].

لا يقتصر الحديث في الرحمة -كما يظن الكثيرون/ات- على الحديث في مغفرة الله لذنوب عباده، إذ يميِّز القرآن بين اسم الله “الرحمن” واسمه “الرحيم”. وقد صنَّف علماء الكلام منذ زمن طويل صفة الله الرحيم، باعتبارها صفة فِعل له سبحانه، تُعبّر عن مغفرة ذنوب العباد؛ أما صفة الرحمن، فهي من أسماء الذات الإلهية التي لا يجوز وصف الله بعكسها -كما قرر ذلك المتكلمون-. فلا نقول مثلًا: إن الله في بعض الأحيان “رحمان”، وفي بعضها الآخر ليس برحمان، بل حسب ما جاء في القرآن الكريم، فإن رحمة الله مطلَقة لا تَعرف حدودًا: {ورحمتي وَسِعَت كلَّ شيء} [الأعراف: 156]، فهي تتعلق بذات الله، كما تتعلق بعلاقة الله بالإنسان. وهذا البعد الرحماني الذي يتجاوز موضوع مغفرة الذنوب، هو الذي يهمنا هنا.

وردت رحمة الله في مفهومها الرحماني في القرآن الكريم واصفةً ذات الله، وجاعلة من اسم الله “الرحمن” مرادفًا لاسمه “الله”: {قُلِ ادْعُوا الله أو ادعُوا الرحمن أيًّا ما تَدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]. ثم إن لرحمانية الله بعدًا أنطولوجيًّا يتعلّق بتجلي الله للإنسان من خلال القرآن، وبعدًا آخر يتعلق بخَلق الإنسان وبِبعثه يوم القيامة. فالله بصفته الرحمن هو الذي: {علَّم القرآنَ، خَلق الإنسان} [سورة الرحمن: 2-3]، {إنْ كلُّ مَن في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبْدًا} [مريم: 93]. ونجد أنَّ القرآن قد ربط العلاقة بين اسم الله الرحمن والمؤمنين الصالحين، بمعنى المودة: {إنَّ الذين آمَنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمنُ وُدًّا} [مريم: 96].

حرِيٌّ بالقول أن الرحمة هي الصفة الوحيدة التي كتبها الله على نفسه، مرَّةً في سياق الحديث في بعث الإنسان يوم القيامة: {كَتَب على نفسه الرحمة لَيَجْمَعَنَّكُم إلى يوم القيامة} [الأنعام: 12]، ومرةً في سياق الحديث في المغفرة الإلهية: {كَتَب ربُّكم على نفسه الرحمةَ أنه مَن عمل منكم سُوءًا بِجَهالة ثم تاب مِن بعدِه وأصْلَح فأَنَّهُ غفور رحيم} [الأنعام: 54]. ومن باب الاختصار، فإنني سأكتفي بهذه الآيات التي أوردتُها آنفًا في سياق الحديث في الرحمة.

الذي أريده هنا وفي المقالات القادمة، هو الانطلاق من مفهوم الرحمة الإلهية -في بعدها الرحماني-، لفتح أفق جديد للتفكير في وجود الإنسان وعلاقته بالله، والسؤال عن تواصل هذا الإله مع الإنسان؛ ما يسمح بإعادة الراهنية لمفاهيم، من قبيل: الفعل الإلهي، والتجلي الإلهي، والوحي، والحرية، وغيرها من المفاهيم الإيمانية.

سأتوقف لحظة مذكرًا القارئ(ة) بمعنى الرحمة الإلهية، التي نتحدث بها هنا في بعدها الرحماني. فالرحمة هي صفة ذات لله التي تكشف للإنسان عن إرادة الله له، أي أن الله يريد الإنسان، وأنه ما زال مريدًا لذات الإنسان، لا لهدف آخر. فهي تُعبِّر عن محبته سبحانه للإنسان بوصفه هدفًا للخلق: {يحبُّهم ويحبونه} [المائدة: 54]. ونجد هذا المعنى أيضًا عند البحث في جذور صفة ذات الله “الرحمن”، إذ هي كلمة سريانية آرامية الأصل تعني الإله المحب، وهو المعنى نفسه الذي وظَّفه القرآن.

لقد تعرّفنا في المقال السابق إلى البعد الأنطولوجي للرحمة الإلهيّة، حين تحدّثنا بكونها تعكس صورة الإله الكامل المُحب للإنسان، الذي يريده لذاته من غير شروط. وهو ما سينقلنا إلى الحديث في هذا الإنسان الذي هو مُراد الله، وإلى الحديث بالنهاية في البعد الأنثروبولوجي للرحمة.

إن التأسيس لفكرة أن الله كان وما زال مُريدًا للإنسان لذاته، يترتب عليها أن الإنسان ليس وسيلة بل هدفًا. وقد أشار القرآن إشارة سريعة، ولكنها مركزية، في عرضه الرمزي لقضية أنطولوجية تتعلق بخَلق الإنسان، حين سجَّل سؤال الملائكة لله عن خلق خليفة له في الأرض من البشر، ظنًّا منهم أن مقصد الله من الخلق هو أنْ يُسبِّحوا بحمده ويقدِّسوا له (انظر سورة البقرة، الآية 30). ولذلك، طلب الله من الملائكة السُّجود للإنسان، تأكيدًا لكون هذا الإنسان هو هدف في ذاته، يستحق سجود الملائكة له. إن الله هو من أعطى الإنسان مركزية في الخلق، لكنَّها مركزية قائمة على المسؤولية لا على الأنانية. فالإنسان خليفة الله، بمعنى أنه حامل الأمانة، ليكون اليد التي بها تتحقق الرحمة الإلهية في الأرض.

وللحديث بقية…

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive