الرجوع

هؤلاء لا يمثِّلون الإسلام

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠٧/٣١ |

هـ ١٤٣٩/١١/١٩

تنطوي عبارة "هؤلاء لا يمثِّلون الإسلام" -مع بساطتها- على إشكالات عميقة، لا تتوقف على نفي صلة الإسلام بالإرهاب والعنف؛ وإنما تمتدُّ لتشتبك ببعض المضامين والتساؤلات الدينية العميقة.

فهل نحن في حاجة إلى مَن يمثِّل الإسلام؟ وهل يريد الإسلام من يمثِّله؟ وهل تمثيل الإسلام لا يحتمل سوى صيغة واحدة، أم أن هناك نوعًا من "تعدُّديّة التمثيل"؟ وهل يحقُّ للأغلبية العددِيّة دون الأقلِّيّة أن تدَّعي تمثيل الدين؟ كلُّ هذه الأسئلة وغيرها، يمكن أن تَحضر عندما نناقش موضوع تمثيل الدِّين.

في القديم، كان السؤال حول مَن يمثِّل الدِّين، مختزَنًا في مسألة الفِرقة الناجية، وكانت الإجابة تحُوم حول أهل السُّنّة والشِّيعة والأشاعرة والمعتَزِلة والخوارج. وفي وقتنا الراهن، أُضيفَ إلى تلك الإجابة عناوين أخرى، كالسَّلَفِيّة والصُّوفيّة والجِهاديِّين وغيرهم.

من الممكن لكثير من أَتباع الأديان أن يدّعوا تمثيل دياناتهم، ولكن المشكلة تَبرز عندما يقترن التمثيل بادِّعاء الوكالة عن الله. وهنا، لا بد من القول بأن تمثيل الإسلام هو جزء من سؤال أكبر، يقترن بالتمثيل البشَرِيِّ للدِّين، مع أن البشر يمثِّلون أنفسهم، والإنسان هو خليفة الإنسان، وليس خليفة الله كما يظنُّ كثير من الناس. وبالإجمال، يَرفض القرآن مفهوم الوكالة بِاسم الدِّين، في قوله تعالى: {ولَو شاءَ اللَّهُ مَا أشرَكُوا ومَا جَعَلناكَ عَلَيهِم حَفِيظًا ومَا أَنتَ علَيهِم بوَكِيلٍ} [الأنعام: 107]. وإذا كان هذا هو حال خاتم الأنبياء، فكيف بمن يدَّعي السَّير على سُنَّته؟

لا تتوقف المشكلة على الجرائم التي يقترفها بعض المنتسبين إلى الإسلام؛ وإنما تَكمن في ادِّعاء هؤلاء أنهم يفعلون ذلك بِاسم الإسلام ودفاعًا عنه. وهي مشكلة عامة في الأديان، تذكِّرنا بالحروب الصليبيّة التي كانت وما تزال مشكلة في تاريخ المسيحية، وبالحركة الصهيونية التي نصّبَت نفسها ممثِّلة لليهودية، وأساءت إلى اليهود أكثر مما أساء إليهم النازيُّون. ونَلمح هنا مشكلةَ ازدواجيَّةِ المعايير في مسألة التمثيل. فنحن نَرفض نسبة التطرُّف والجرائم إلى الإسلام، بِحجَّة أنّ غُلاتَنا لا يمثِّلون الإسلام، ولكننا نبحث في ذات الوقت عن أسوَأ مَن يمثِّل الأديان الأخرى، لنَنسب إلى ديانتهم أفعالهم القبيحة!

مشكلةٌ أخرى، تتمثَّل بِكَون كثير من الممارسات التي تقوم بها الجماعات القتالية المنتسبة إلى الإسلام، من قطعٍ للرُّؤوس والأيدي والأرجل، ورجمٍ وسبْيٍ وتكفيرٍ لأَتباع الفِرق والأديان المخالفة... إلخ. هي ممارَسات لها مرجِعيَّتها في التراث الديني، وسبَق أنْ مارسها بعض المسلمين في التاريخ.

يشير القرآن إلى أن الفَظاظة وغِلْظة القلب، ستُفضي إلى أن يبتعد الناس عن الأنبياء: {ولَو كنتَ فظًّا غَليظَ القَلبِ لَانفضُّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغْفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ} [آل عمران: 159]. وهذا يعني أن حُسن أخلاق أَتباع الأديان، يُفضي بالآخَرين إلى محبة ديانتهم والإيمان بتعاليمها. وفي المقابل، فإن سوء أخلاق الأتباع، يؤدِّي إلى مُعاداة ديانتهم ورفضِ تعاليمها. ففي كلِّ دين هناك أتباع مُحْسنون، وآخَرون مُفسدون في الأرض. لذلك، ستبقى الممارَسات المقترَفة بِاسم الدِّين حاضرةً في صورة الدين ومفاهيمه، التي لا تنفكُّ عن أخلاق الأتباع وسلوكهم. فاعتقادُ وُجودِ مفهومٍ منفصل للدِّين، يَقْبع في عالَم المُثل بعيدًا عن الإنسان، يُمكن أن يُدِين الدِّين أكثر ممَّا يُبرِّئُه.

عندما تَسُوء الممارسة العملية بشكل واسع ومستمرّ، فإن هذا يضَع التّصوُّرات والمَقولات الدينية على المِحَكِّ، أو على الأقلِّ يُشير إلى خلل في فهم الدين، أو في قابليَّته للتطبيق. وإذا كانت كلُّ فئة من المتديِّنين تتَّهم الأخرى بأنها لا تمثِّل الإسلام، فهذا يَعني أن جميع المنتسبين إلى الإسلام، هم في النتيجة متَّهمون بعدم تمثيل الإسلام! ولعلَّ غياب الحوار، وضعف قيمة التعدُّديّة، وتغييب دور العقل، سيُفضي إلى مزيد من التمثُّلات الدينية القبيحة، التي تدَّعي تمثيل الدِّين وهي تُسيء إليه وإلى أتباعه، أكثر ممّا يُسيء إليه أعداؤه.

ما دام البشر غير معصومين، فإن تمثيلهم للدِّين لا يتعدَّى قُدراتهم ومعارفَهم البشرية. فنحن هنا أمام تمثيلٍ نسبيّ للدِّين، أو في أحسن الأحوال تمثيل "أحسن" أو "أقرب" من القيم الجوهرية للدِّين، والتي غايتها العملية أن يتراحم الناس، ويُقِيموا العدل والقِسط فيما بينهم.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive