الرجوع

هل من صراع بين العلمانية والدين؟

الخميس

م ٢٠١٧/٠٨/٠٣ |

هـ ١٤٣٨/١١/١١

إنّ حذر السلطات الدينيّة واضح وكبير تجاه العلمانية، ويبادلها هذا الشعور عدد من مناصري العلمانية بنظرتهم السلبية إلى الدين ومفاعيله في الحياة الاجتماعية. ولكن هذا ليس هو الرأي الوحيد أو السائد في المسألة، فالإشكالية أكثر تشعّبًا وتعقيدًا مما قد يبدو لبعضهم.

لقد ذهب بعض المفكرين في الغرب إلى حدّ اعتبار أن المسيحية هي في أساس العلمانية، بدل أن تكون نقيضتها. فكتب المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه في تنظيره لعلمنة العالم الحاسمة، أن المسيحية هي "ديانة الخروج من الدين". عنى بذلك ليس نهاية الاعتقاد الديني وممارسة شعائره الخاصة، بل نهاية الدور الاجتماعي للدين، ومِن ثمَّ خروج الدين من الحياة العامة واعترافه باستقلاليّة العالم عنه. والنقاش الدائر حاليًّا في الأوساط الأكاديمية الغربية يتخطّى هذه المسألة ويركّز على "عودة" الدين إلى الحياة العامة، أو بالأحرى بروزه بشكل جديد، وكيفية التعامل معه. فأدار عالم الاجتماع الأميركي بيتر برجر دراسة جماعية تحت عنوان "عودة الدين إلى العالم"، كما انكبَّ في السنوات الأخيرة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، على دراسة الأنماط السليمة من مشاركة الدين في الحياة العامة.

أما من ناحية الكنيسة، فلقد قاومت بدايةً السلطةُ الكنسيّة العلمانية، فأصدر البابا بيوس التاسع رسالته الشهيرة "السيلابوس" (المنهج) سنة 1864، داعيًا المسيحيّين الكاثوليك إلى رفض مجموعة هرطقات وانحرافات من بينها: المطالبة بفصل الكنيسة عن الدولة والدولة عن الكنيسة، أو الاعتقاد بعدم جدوى اعتماد الديانة المسيحية الكاثوليكية الدين الرسمي والوحيد للدولة. لكن هذا الموقف عرف تطوّرًا ملحوظًا، نرى أثره في الإرشاد الرسولي للبابا بندكتُس السّادس عشر "الكنيسة في الشرق الأوسط"، الصادر سنة 2012، (فقرة 29) حيث يدعو فيه إلى العَلمانيَّة الإيجابيَّة كضرورة للسياسة والدين معًا. وفي معرض شجبه أولًا للشكل المتطرّف والإيديولوجيّ للعَلمانيَّة، يقول: "بكثير من الارتياب، ينظر بعض المسؤولين السياسيين والدينيين في الشرق الأوسط، من كافة الجماعات، إلى العلمانية باعتبار أنَّها تعني الإلحاد أو اللأخلاقية. وصحيح أنَّ العَلمانية قد تصل أحيانا، وبطريقة مختزلة، إلى تأكيد أن الدّينَ ينحصر فقط في النطاق الفرديّ، وكأنه ليس إلا عبادة فردية وبيتية بعيدة عن الحياة وعن الأخلاق وعن العَلاقات مع الآخرين". ثم يشرح البابا نظريّته في العَلمانيّة الإيجابيّة، التي "تعني تَحرير المعتقد من ثقل السّياسة، وإغناء السّياسة بإسهامات المعتقد، بحفظ المسافة اللازمة، والتّمييز الواضح، والتّعاون الَّذي لا غنى عنه، لكليهما". ويضيف أنّه "لا يمكن لأيّ مجتمع أن يطوّر نفسه بطريقة صحّيِّة بدون تأكيد الاحترام المتبادل بين السّياسة والدّين، ورفض السّقوط في التّجربة المستمرّة للخلط أو للتحارب".

أمّا إسلاميًّا، فموقف المرجعيّات الدينيّة يبدو أكثر حذرًا ورفضًا للعلمانية. يقول المرجع الشيعي اللبناني السيد محمد حسين فضل الله، في مقابلة نُشرت في صحيفة "الأيام" البحرينية (18-5-2008): "ليس هناك لقاء بين الطرفين [أي العلمانيين والإسلاميين]، لأنّ العلمانيّة ترفض إدخال الدين في قضايا السياسة والقانون والاجتماع والاقتصاد والحرب والسلم، بينما يؤكّد الدين الإسلامي امتداده في الحياة العامّة للناس، على مستوى تحكيم الشريعة في أمورهم، ومواجهة الواقع بالمفاهيم الإسلامية العامّة في قضايا حقوق الإنسان والمرأة بشكل خاص، ونحو ذلك".

وقد صرّح أخيرًا الدكتور محمد عبد الفضيل، منسق مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، أنّ "الفصل التام بين المؤسسة الدينية والحياة العامة على النمط السائد في بعض دول الغرب يمثل -كما يرى بعض المفكرين المسلمين- إضعافًا للدين وإقصاءً له، ويحرم المجتمع من الاستفادة من الطاقة الإيمانية الضخمة التي يمكن أن تعدّ عنصر ثراء يغني المجتمع، ويسهم في نهضته" (اليوم السابع: 3-7-2017). لهذا السبب؛ يتبنّى الدكتور عبد الفضيل مفهوم الدولة المدنية بدل الدولة العلمانية.

لقد قامت العلمانيّة على تأسيس أنظمة سياسية تدير الشأن العام بشكل متحرّر من السلطة الدينية، وقد مرّ هذا المسار بمحطات من الصراع بالغة العنف، كما حصل إبّان الثورة الفرنسية (1789)، حيث انتفض الثوَّار ضد تحالف الإقطاع الملكي مع السلطات الدينية، وأعادوا بناء الدولة على أساس السيادة الشعبية وحقوق الإنسان. لا يزال هذا المنطق التصادمي -لدى بعضهم- مسيطرًا على مقاربتهم للمسألة، في حين نجد عند بعضهم الآخر انفتاحًا للدين على العلمانية، وقبولًا لها، مع تمييزها عن الإيديولوجية المناهضة له، بوصفها علمانية إيجابية أو مرِنة. كما يعترف بعض علماء السياسة بالدور الاجتماعي للدين، شرط قبول هذا الدين مبدأ استقلالية السلطة السياسية، وحيادية مرجعيتها، وسياديتها الشعبية. لهذا، لن ينتهي الصراع بين العلمانية والدين إلّا مع تحرّر الاثنين من النزعة الأحاديّة الإيديولوجيّة، وقبولهما التعدّدية الاجتماعية. بذلك، لا يعود أحدهما مهدِّدًا للآخر، بل يدخلان في شراكة، في سياق تعزيز الحياة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

 *هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive