الرجوع

يَوم للكذب، لا يوم للصِّدق

الخميس

م ٢٠١٩/٠٤/٠٤ |

هـ ١٤٤٠/٠٧/٢٩

يبدأ نيسان، وهو شهر الربيع المنتظَر بعد شتاء طويل، بِيَوم يُسمح فيه بالكذب الممزوج بالمزاح، فيما يُعْرف بـ"كذبة نيسان"، حيث يتناقل فيه الناس فيما بينهم أخبارًا كاذبة، ويفتعلون المقالب المضحكة. يوم مسموح فيه بالكذب، على اعتبار أن للصدق بقية أيام السنة.

يُحدّثنا خبراء التنمية البشريّة، بالصدق الذي يجب أنْ يكون المُوجِّه لتصرّفاتنا، في حال أردْنا أنْ نحيا حياة هانئة تَملؤها السكينة. ويتناسى معظمهم أنّ قراءة الكتب الأجنبيّة وترجمتها، لا تكفيان لتوجيه أفراد يعيشون في مجتمع عربيّ، وأنّنا عند الحديث بالصدق، يجبُ أنْ نُرفق النصائح بتحذير مِن الأثمان الباهظة، التي سيدفعها كلّ فرد من أفراد المجتمع؛ لأنّه ببساطة أراد أنْ يتصرّف بصدق، ويُعبّر عمّا في داخله بلا مُواربة وكذب.

الأمر في الواقع، يتعدّى علاقة الأفراد بالأنظمة، والنِّفاق الذي اعتدْناهُ  بسبب حال حرّيّات التعبير في كثير من الدول العربية، بل يشمل أيضًا علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقة الفرد بالمجتمع. وهي علاقة مشوَّهة، أنتجَت أفرادًا يُضْمرون غير ما يُظهرون. ففي مجتمعنا، المَظهَرُ لا يَعكس الجوهر، والحديث لا يعكس القناعات، بل قد يكون مخالفًا تمامًا أحيانًا.

قبْل أيّام، عبَّرَت مُذيعة شهيرة عن رأيها في قضية "التضحية بالابن من أجل الوطن". قالت بكلّ صراحة: "لن أُضحّيَ بِابْني مِن أجل قضايا الدُّنيا". انهالت عليها التّهم مِن كلّ حَدَب وصَوب، مِن رجال ونساء، بل من بعض أمّهات هنّ أنفسهنّ يُدركْنَ أنّها لم تُعبِّر ربما إلّا عمّا يدور في بالهنّ، دون إعلان ذلك على المَلَأ. فبعض الأُمّهات يعتقدن أنّه لا يُوجد مَنْ تَقْبل التضحية بابنها؛ وإنما إنْ أتاها خبرُ موته أو استشهاده، فقد تَصْبر وتُخبِّئ قهْرَها وغضبها، نكايةً في العدوّ. كثيرون يَعرفون ذلك، ولكنّ هذا لا يعني أنْ نُعبِّر بصراحة عمّا نُدركه. والجميع يَعْلم أنَّ المُذيعة لم تأتِ بأمرٍ غريب، ولكنّها عبَّرت بصراحة عنه، وهذا ما لم يَعتَدْهُ المجتمع العربيّ.

ما حصل معَ المذيعة، يُكرَّر كلّ يوم على وسائل التواصل الاجتماعيّ. رأيٌ شخصيّ، هو باختصار رأيٌ صادق لصاحبه دون مُوارَبة، في أمرٍ ما مِن أُمُور الحياة: الزواج، أو الإنجاب، أو العلاقات، أو التعامل معَ الاختلافات. هو رأيُ امرأة تتحدّث بخجل برغباتها مثلًا، في مجتمع اعتادَ عدم وجود رغبات للمرأة إطلاقًا، أو رأيُ رجُل يُوضّح وجهة نظر مختلفة في قضيّة عامة، أو يَطرح أسئلة في قضايا دينية مُختَلَف فيها، أو يُنظر إليها مِن زاوية أخرى؛ لِتنهال بعدها على صاحب الرأي الشتائم. والهجوم غالبًا ما يكون في مَقتل. لا مانع مِن استخدام الشتائم التي تَطُول الشَّرف والسُّمعة والأخلاق، خصوصًا إنْ كان المهاجَم امرأة، إذْ يجب أنْ تكون الهجمة شرسة، حتّى تكون عِبرةً، لكلّ مَن تُخوّل لها نفسها مجرّد التعبير عن رأي مخالف للعامّة.

السؤال هنا: "لماذا يُهاجَم الفردُ الذي يُعبِّر عن رأيه المختلف صراحةً بدون تجميل؟". الأسباب مختلفة. أوّلها الخوف، الخوف مِن استيقاظ الأصوات المكبوتة في داخل المهاجِم، الذي يُرعبُه نهوضها مِن سُباتها. ثم إنّ استخدامه الهجوم كأسلوب للدفاع، أمرٌ وارد؛ لإبعاد شبهات الاختلاف عن نفسه، وكأنّه في هجومه يزيح عن نفسه تهمة التفكير المختلف، التي قد تَطُولُه إنْ سكت وصمت، أو بقيَ على الحياد. وأيضًا فإن كراهيَة صاحب الرأي المختلف، قد تكون نابعةً مِن كراهيَته للجُبْن القابع في ذاته، الذي يُذكّره هذا الجريء به.

ما يُقال بين الصَّديقات وأفراد العائلة، لا يُكتب على صفحات التواصل، وما تَشعر به مِن مشاعر، لا يُمْكنك إطلاقًا أنْ تَنثُرَه هكذا بدون مُواربة. فتَغرق في مشاعرك الدفينة، مواقفُك مِن القضايا العامّة. وأفكارُك الحقيقيّة بكلِّ ما فيها، لا تَظهر إلّا باستخدام أساليب تجميليّة، لتُصبح أكثر قبولًا وهضمًا في معدة الفرد، التي اعتادت التصنُّع والكذب والزيف.

مَن مِنّا على استعداد للتخلّي المطلق عن الأقنعة؟! ومَن مِنّا على استعداد لمواجهة المجتمع بأفكاره المختلفة بكلّ صدق؟! أعتقدُ أنّ هناك درجة معيّنة مِن الصدق، مِن الصعب أنْ يتعدّاها المرء دون التفكير في العواقب. لهذا، نلجأ في الكثير من الأحيان إلى استخدام أساليب مُواربة وغير مباشرة، للوصول إلى الفكرة. فثَمنُ الكلمة الحرّة باتَ باهظًا؛ إذْ نفاق المجتمع هو سِّمَةٌ سائدة، وكثيرون يُريدون كسب ودّه للانخراط فيه، لكي يُسمح له بأنْ يكون فردًا بارًّا بمجتمعه، ومَوروثه، وماضيه، وثوابته، حتّى بتلك التي تُخالف المنطق.

إنّ الجميع بلسان واحد، يسألون المختلف: "مَن أنتَ لتَسير عكس التيّار؟ ومَنْ أنتَ لتَحمل رأيًا مختلفًا؟ فكُلّنا في الهَمِّ شَرْقٌ".

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive