أحاول في هذه المقالة اقتراح نقاط مهمة، تُتيح إمكانية فهم علاقة “الديني” بالمؤسَّسة السياسية في الإسلام، وهذا ما يُوفِّره لنا درس التاريخ. لذلك، أرى ضرورة الوقوف عند ثلاث محطات تاريخية. أُولَاها: قبل بعثة الرسول عليه السلام؛ وثانيتُها: زمن الخلافة الأُمَويّة؛ أمَّا ثالثة هذه المحطاّت، فمع ظهور الخلافة العباسية.
المحطة الأولى: قبل البَعثة النبوية
تُتيح لنا دراسة طبيعة الصراع القبَلي قبل الإسلام، فهْم بدايات الصراع على السلطة. وهو صراع بدأ في قريش، بين أبناء أخوَيْن وُلدا في بداية القرن السادس الميلادي، أي قرابة مائة سنة قبل البَعثة النبوية. إنَّه الصراع بين بني هاشم وبني عبد شمس -ابنَيْ عبد مناف-، على زعامة قُريش والسيطرة على مكة وعلى ما حولها. تذكُر الأخبار التاريخية أن عبد مناف كان زعيم قُريش وسيِّدَها المُطاع، وقد أَوكَل على ابنه هاشم استقبال الحجيج وخدمتهم. وهو الأمر الذي سمح له بتأكيد مكانته داخل قُريش، في حين كان اشتغال عبد شمس بالتجارة سببًا في غيابه الدائم عن مكة؛ ما يسَّر لهاشم أن يَخلف أباه. لكنَّ هاشمًا سيتعرَّض لاحقًا لمنافسة كبيرة من ابن أخيه “أُميّة بن عبد شمس”، الذي حاول الاستحواذ على مكانة عمِّه والظفر بزعامة قريش، عن طريق العناية بالحجيج وإكرامهم وتقديم الذبائح لهم، إلَّا أن أميَّة فشل في مسعاه، إذ تَنقل الأخبار أنه لم يكن محبوبًا في قريش.
لقد كان هذا الصراع بمنزلة الإرهاصات الأولى لتوظيف المُقدَّس من أجل السلطة، الذي استمر زمنَ الإسلام المُبكر. فعند بَعثة الرسول الكريم، كانت زعامة قريش ما زالت في البيت الهاشمي، في حين لعب البيت الأُمَوي دور المعارَضة. ونظرةٌ سريعة إلى أسماء كبار مُعارضي النبي، تُوضِّح ذلك البعد السياسي لهذه المعارضة. فأبو سفيان وعُتْبَة بن ربيعة والحَكَم بن أبي العاص وعُقْبَة بن أبي مُعَيْطٍ وسعيد بن العاص، كلهم من أبناء بيت عبد شمس، الذين تواترتْ أخبار مُعاداتهم للرسول. إن الاقتصار على اختزال الصراع بين محمد عليه السلام وسادة قريش في رفض التوحيد، لا يمكِّننا من فهم كامل أبعاد الوضع القائم حينها، حيث كانت القضية سياسية تتعلق بالسلطة، بما قد يفوق ما يتعلق بالبعد الديني.
سيَحتِم علينا استحضارُ هذا السياقِ السياسي والاجتماعي، إعادةَ النظر في فهمنا لطبيعة الرسالة المحمدية، إذ يبدو جليًّا أن رسالة التوحيد التي بلَّغها النبي الكريم، لم تكن مجرَّد رسالة عَقَدِيَّة مفصولة عن واقعها، بل كانت منذ بداياتها ذات بُعد اجتماعي تحرُّري، يَنشد تحرير الدين من التوظيف السياسي، رافضةً الولاءات العشائرية والزعامات القبَلية، التي أُريدَ تبريرُها باستخدام الرمزية الدينية في مكة.
يبدو لنا نجاحُ الدعوة المحمدية في التحرر من ولاءات وزعامات كهذه، واضحًا في تقبُّل قريش خلافتَي أبي بكر وعمر، إذ إنَّ كليهما ينتميان إلى عشائر لم يكن لها ثقل سياسي، يُعادل ثِقل حضور بني هاشم أو بني عبد شمس. فأبو بكر من تميم، وعمر من عَدِيّ، وهما من بطون قريش الصغيرة. لكنَّ الصراع القديم سيعود للظهور سريعًا بين أبناء هاشم وعبد شمس، ليتحكَّم في مُجريات الأحداث في القرون التالية، مُنْذ استحواذ الأُمَويِّين على الحكم بقيادة معاوية بن أبي سُفْيان، إلى أنْ تمكَّن خصومهم العباسيون من إسقاطهم، والانطلاق في حقبة جديدة أكثر إمعانًا في توظيف الدين في خدمة السلطة.
المحطة الثانية: الخلافة الأُمَويَّة
لقد سيطر موضوع القدَر الإلهي على الساحة الفكرية والسياسية، خلال فترة الحُكم الأُمويّ. وجاء استغلال الأُمَويين لهذا المفهوم، من أجل تدعيم سلطتهم واستبدادهم. حدث ذلك حين برَّر معاوية -قبل تولِّيه الخلافة- دخولَه المعركة الدامية مع الخليفة الرابع علي بن أبي طالب (هاشمي السلالة)، بأنه كان مشيئة الله وقدَره، ثم كرَّر ذلك حين أوصى بالخلافة لابنه يزيد، جاعلًا ذلك أيضًا من مشيئة الله وقدَره. إنَّ هذا التوظيف السياسي لمفهوم القدَر، يجعل من كل معارضةٍ سياسيةٍ معارَضةً لمشيئة الله. ومن ثم، يَسهل على الحاكم أنْ يجعل من مُعارضيه، خصومًا خارجين على الشرعية الدينية، تلك الشرعية التي أصبحتْ معروفة تحت عنوان “أهل السُّنَّة والجماعة”. فجرى توظيف هذا المفهوم الديني، لوصف الولاءَيْن السياسي والديني في آن واحد.
لقد أرادت الخلافة الأُمَوية -من خلال توظيفها لِمقولة القدَر- جعْلَ الدين “أَفْيُون الشعوب”، على حد التعبير الشهير لكارل ماركس، حيث يُصبح الإنسان مستسلمًا وسلبيًّا تجاه كل ما يحلُّ به، مُعلِّلًا ذلك بأنَّه قدَر الله. ومع انتقال مفهوم القدَر من المستوى السياسي إلى الثقافي، صار الحديث اليوم في حرية الإنسان وفاعليته المباشرة في التاريخ وقُدرتِه على تحديد مصيره، حديثًا يُوصَم بالعلمانية، التي تُرجمتْ خطأ بأنَّها معارضة للدين، غير أنَّها في جوهرها، ليست سوى معارضة لتصوُّر استبداديّ للدين!
بلَغ التداخلُ بين الديني والسلطوي أَوْجَهُ، إبَّان الخلافة العباسية. وسنتعرض لهذا في المحطة الثالثة، في مقالتنا القادمة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.