ما يزال أصل تسمية كل من "إبليس"، و"الشيطان"، من التسميات الملتبسة في كتاباتنا الدينية. فمحاولة اشتقاق تسمية "إبليس" من الإبلاس، وهو الإياس (اليأس) من الخير، والندم، والحزن، لا يقلُّ التباسًا من اشتقاق تسمية "الشيطان" من الشطن، الذي يعني البعد عن الخير.
والمشكلة هنا لا تقتصر على الجانب اللغوي فحسب، وإنما تمتد إلى الجانب العَقَدِيّ. فكيف لمن كان في منزلة الملائكة وشمله أمر السجود، أن يكون اسمه بهذا القبح؟ وماذا كانت تسمية إبليس قبل أن يخطئ ويخرج عن أمر الله؟ حاول بعض المفسرين الاستعانة بالإسرائيليات للخروج من المشكلة، فقال البغوي في تفسيره: "وكان اسمه عَزازيل بالسريانيَّة، وبالعربية الحارث، فلمَّا عَصى غُيِّر اسمُه وصورته، فقيل: إبليس". ومن عزازيل التي تعني باللغة العبرية "قوة الله"، وقريب من هذه التسمية، ما نستخدمه من تسمية "عِزْرائيل"، للإشارة إلى ملك الموت، والتي تعني باللغة العبرية: "عون الله"، وتستخدم بمعنى ملك الموت!!
والصواب أن تسمية إبليس، وكذلك الشيطان، هما من التسميات غير العربية. والأرجح أن تسمية إبليس جاءت من اللغة اليونانية ديابوليس (Diabolos)، ومعناها المشتكي زورًا. أمَّا تسمية الشيطان، فهناك من يذهب إلى أنها تسمية مشتقة من التسمية العبرية: (ساطان) بمعنى "عادَى، ناصَبَ العداء". لكن السؤال الأصعب الذي يُوجَّه إلى مَن قال بالأصل العبري لتسمية الشيطان هو: لماذا لم تذكر التوراة في أسفارها الخمسة تسمية الشيطان؟ ولماذا جاءت معرفة بني إسرائيل بالشيطان بمرحلة السبي البابلي؟!
تكمن المشكلة في مسألة التعرُّف إلى أصل تسمِيَتَي الشيطان، وإبليس، في ارتباط هاتين التسميتين بتطوُّر مفهوم الشر نفسه. فإشكالية الشر هي إشكالية عميقة، أسهمت في صياغة كثير من التصورات الغيبية، والمفاهيم الأخلاقية.
يمثل الاعتقاد بوجود شخصية يختزل فيها الإنسان شرور نفسه، ومخاوفها، وآلامها، حاجة إنسانية قديمة، ارتبطت بالإحساس بوجود خلل في الظواهر الطبيعية، والجسدية، والاجتماعية؛ وبالانحرافات الأخلاقية والسلوكية؛ والقوى الخفية كالسحر، والشعوذة!
ليس الشر وجودًا أصليًّا في العالم؛ فالقرآن يقول إنّ الله أحسن كل شيء خلقه "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" [السجدة: 7]، وسفر (التكوين: 31) يقول: "ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جدًّا". فالخالق لم يصدر منه إلا الخير والحسن، وأمَّا الشر فهو أمر طارئ وغير أصيل. وهذا خلاف للنظرة المثنوية التي جعلت الإله "أهريمان" إله الشر، نقيضًا لإله الخير "أهورامزدا". فالشر وَفْق نظرة الديانات الإبراهيمية، ليس جوهريا، ولا يغيِّر المشهد الكوني العامّ.
يُعدُّ الموت عند كثير من أتباع المعتقدات الدينية، أكثر أشكال الشر تجلِّيًا، وخاصة أنه يتصل بالأمراض، والنقص، والضعف؛ ولذلك ارتبط في بعض المعتقدات الدينية بقوى شريرة، تقول بعض المعتقدات اليهودية بأن "الشيطان" هو الذي يقبض الأرواح.
يقف مفهوم "الابتلاء" في الإسلام، في منطقة وسطى تربط بين الخير والشر، وتعطي للشيطان دَورًا محدَّدًا لا يخرج عن إرادة الله، ولا يخترم إرادة الانسان. فالنفس الإنسانية هي المسؤولة عن الشر، وليس الشيطان، أو غيره.
من القضايا المعضلة التي أثيرت، وما تزال في الفكر الديني الفلسفي، سؤال: هل خلَق الله الشر؟ ومن المسؤول عن وجود الشر؟ مِنَ الذين غاصوا في عمق هذه الأسئلة الحسين بن منصور الحلاج، الذي رأى في إبليس مُوحِّدًا من أعظم الموحِّدين: "وما كان في أهل السماء موحِّد مثل إبليس، حيث إن إبليس تَغَيَّر عليه العين، وهجر الألحاظ في السَّيْر، وعبَد المعبود على التجريد". فالشيطان في هذا الإطار العرفاني الفلسفي، هو مظهر من مظاهر اسم الله "المُضِلّ"، كما أن الأنبياء هم مظاهر لاسم الله "الهادي".
ختاما نقول: إن مشكلة الشيطان تكمن في كراهيته للإنسان، وليس في إنكاره لوجود الله. وأعظم تَجلٍّ للشيطان على الأرض يتمثل في شيطنةٍ لأخيه الإنسان، وإشاعة البغضاء بين الناس، وتجريد الإنسان من تكريمه وكرامته التي أرادها الله له.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.