لقد دأب الكثير من المنظّرين على اعتبار اختبار الغيريّة، هو السبيل لاكتشاف الهوية الشخصيّة، حيث يدرك الفرد ذاته بالنسبة إلى اختلافه مع الآخرين. لكنني شخصيًّا أختلف مع هذه المقاربة للهوية، المرتكزة على العلاقة التمايزية والنزاعيّة بالآخرين، وكأنّ الذات البشريّة لا تدرك حقيقتها إلا في سياق تنافسي.
لعلّ الاختلاف هو من أهمّ سُنن الحياة، وأوضحها. ولكن ذلك لا يُنتج حتميّة بناء الهوية الفردية، على الغيريّة. فبدل أن يتعرّف الإنسان إلى ذاته، ويُعرّف بها بما ليست هي، نسبة إلى من هم الآخرون، أعتقد أنه من الأصح القول: إنّ الهوية الفردية، تتكوّن عبر سعيِ الفرد المستمر لإدراك ذاته، بشكلٍ يُوائم بين معطيات حياته، وتجاربه، ومقدّراته، ويسعى للحصول على الاعتراف بها مِن قبل الآخرين؛ لأنّه في تداخُل حتمي بينه وبينهم. فالآخر لا يُشكّل باختلافه الصورة المعاكسة لي، بل هو حجر أساسي في بناء ذاتي؛ لأنّ علاقتي به، وتفاعلي معه، واعترافه بفرادتي يفتح إدراكي على جوانب مختلفة من حياتي. بذلك تُسهم "المعيّة" في تشكيل هوية الفرد، في سياق "الغيريّة"، وذلك لا بتمايزه عن الآخرين وحسب، بل بتفاعله الإيجابي معهم.
والمشكلة الكبرى تكمن في تعريف بعضهم لـ"الهوية الجماعيّة"، مستندين إلى مبدأ التماهي بين أقران ينتمون إلى جماعة خاصة مشتركة، تُشكلّ مضمون الـ "نحن" من جهة، في مواجهة مبدأ التمايز الجمعي عن الآخرين، الذين يوصفون بالـ "هُم"، في الجهة المقابلة. ويأخذ هذا التعريف أبعادًا أكثر إشكاليّة وخطورة، عندما تكون الجماعة المعنيّة هي دينيّة؛ ما يؤسّس ثنائيّات مثل نحن المسلمون وهم المسيحيّون، أو نحن السنّة وهم الشيعة.. إلخ.
ومع تحقُّق وجود عناصر مشتركة، وروابط خاصة، تجمع بين المنتمين إلى جماعة ثقافيّة، أو إثنيّة، أو دينيّة، واحدة، إلّا أنّ ذلك لا يؤسّس برأيي لوجود ما يمكن تسميته بالهويّة الجماعيّة، التي تجعل المسلمين مختلفين عن المسيحيين، والسنّة مختلفين عن الشيعة، على مستوى الهويّة. يقول الكاتب أمين معلوف، في كتابه "الهويات القاتلة": "إذا كان المتشدّدون من مختلف الانتماءات، ينصّبون أنفسهم بسهولة كمدافعين عن الهوية، ذلك لأنّ المفهوم "القبلي" للهوية لا يزال سائدًا في العالم ويُشجّع على هذا الانحراف".
غالبًا ما يرتبط منطق "الهوية الجماعية"، بديناميّة الصراع على النفوذ والسلطة؛ وهو سلاح خطير، بيد من يمتلك القدرة على إنتاج الخطاب الجمعي، أو التجييشي. إذ من السهل مثلًا، ملاحظة كيف يجري التركيز حاليًّا على الترويج للقصص، التي تميّز بين السنّة والشيعة، وتُوهم كلَّ طرف بهوية تختلف، أو تتعارض مع الجماعة الأخرى، إلى درجة التهميش في الوعي الشعبي، لانتمائهم الأساسي معًا، إلى ديانة واحدة. لذلك، أعتقد أنّه لا يجب أن ينطبق مفهوم الهوية الجماعية، إلّا على الهوية الوطنيّة المرتبطة بإطار سياسي واضح، ومصالح مشتركة، يجري تحديدها بالآليّات الديمقراطيّة، ودون أن يتعارض ذلك مع تنوّع الهويات الفرديّة، وفرادة كلٍّ منها، وشموليّة الانتماء إلى البشريّة كعائلة إنسانيّة واحدة. فلقد اعتبر على هذا الأساس نبيُّ الإسلام، في صحيفة المدينة، أنّ المسلمين وغيرهم من سكان المدينة، يُشكّلون معًا أمّة واحدة، بِفعل تعاهدهم على العيش معًا في سياق مشترك، يُشبه ما نُسمّيه اليوم "المواطنة".
إنّ الحديث عن هوية دينيّة، يتعارض مع الواقع، ومع تعاليم الدين نفسه، لا بل يضع الناس في وضعيّات تتناقض وإيمانهم. فكيف يمكن اعتقاد أنّ المصريّ القبطيّ يتشارك في الهوية مع المسيحيّ من فرنسا مثلًا لكونهما مسيحيَّيْن، أكثر مما يتشارك به مع المصريّ المسلم في الهوية الوطنيّة؟ فلا المسيحيّة، ولا الإسلام، يدعوان إلى التضامن العصبي مع أبناء الدين الواحد، على حساب التضامن مع أبناء المجتمع (القريب، والجار)، ومع سائر البشر.
في الخلاصة، لكلِّ إنسان هوِيّته الفرديّة الخاصة التي تميّزه عن الآخرين، أَمِنْ أبناءِ ديانته كانوا، أم من ديانة أخرى. ويتمتّع كل فرد بهوية وطنيّة، تُعبّر عن مصالحه المشتركة مع أبناء وطنه. أمَّا ما عدا ذلك كالدين، والإثنيّة، والعائلة، فهي انتماءات تُعبّر عن شراكةٍ في مكان ما، بين أبناء الجماعة الواحدة، ولكن لا تُبرّر تصنيفهم إلى فئات متمايزة عن الآخرين، وخاصة عندما يتعلّق الأمر بالانتماء الديني؛ فهو أصلًا يدعو إلى الانفتاح على سائر الناس، وممارسة الفضائل والقيم دون حدود دينيّة، أو مذهبيّة، وإلّا أصبحت الهوية الدينيّة حاجزًا أمام عيش الإيمان بمعناه الأصيل. ولعلّ في الآية الكريمة: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحُجُرات: 14]، خير دليلٍ على ذلك.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.