فريد إسحاق - مُناضِل ضد العنصرية ورائد ‘‘لاهوت التحرير’’ الإسلامي
سيرتـــه
وُلد فريد إسحاق (Farid Esack) سنة 1956، في مدينة رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا، وتحديدًا في ضواحي واينبرغ الفقيرة، حيث عانى من نظام التفرقة العنصرية ‘‘أبرتهايد’’ منذ طفولته المبكرة. فبحكم القانون المتعلق بتوزيع السكان على مناطق مفروزة عِرقيًّا (The Group Areas Act)، الصادر سنة 1961، أُجبرَت العائلة المُكوَّنة من الطفل إسحاق وأمه وإخوته الخمسة -والتي هجَر فيها الأب البيت منذ كان عمر إسحاق ثلاثة أسابيع فقط-، على ترك بيتها الكائن في منطقة صُنِّفت بـ‘‘البيضاء’’، لتنتقل إلى الأحياء الفقيرة المخصصة لـ‘‘الملوَّنين’’ في منطقة كيب فلاتس. هنالك، نشأ إسحاق حيث عاش الفقرَ المُدْقع، وكان يذهب إلى المدرسة حافي القدمَين. هذه التجربة القاسية دفعَته -منذ سِنِيِّ الطفولة والمراهقة- إلى الالتحاق بحركاتٍ مكافِحة لنظام التمييز العنصري، حيث كان أول اعتقال له من قِبل الشرطة في سن التاسعة من عمره. وفي سن العاشرة، انضم إلى ‘‘جماعة الدعوة والتبليغ’’، وهي جماعة دينية نشأت في الهند، تُعنَى بدعوة المسلمين إلى ممارسة الشعائر الدينية، والابتعاد عن الرذائل. هذا الانتماء المزدوج للدين وللسياسة، وسَمَ -منذ الطفولة- شخصية فريد إسحاق، التي حمَلَت دومًا الْهَمَّيْن: الوطني والديني.
في سن السابعة عشرة، نال إسحاق مِنحة لدراسة العلوم الإسلامية، في إحدى المدارس الإسلامية التقليدية في مدينة كراتشي الباكستانية، حيث قضى هناك ثماني سنوات. فكان له اهتمام خاص بعلوم القرآن والتفسير، ليتخرج في ‘‘الدرس النظامي’’، وينال لقب ‘‘مولانا’’ الخاص برجال الدين في تلك الأوساط. بعضٌ من طَلَبة هذه المدرسة، التحقوا فيما بعد بجماعة ‘‘طالبان’’ للقتال في أفغانستان. فكانت معرفة فريد إسحاق مِن كَثَب لهذه الأوساط المحافِظة جدًّا -والمتطرفة أحيانًا-، هي التي جعلت الحكومة الباكستانية تطلب وساطته أثناء حصار ‘‘لال مسجد’’ سنة 2007، وهي وساطة باءت بالفشل، ما أدى في نهاية المطاف إلى مقتل العشرات نتيجة الاشتباكات مع الجيش.
على إثر عودته إلى جنوب إفريقيا، التحق فريد إسحاق بـ‘‘حركة الشباب المسلم في جنوب إفريقيا’’ سنة 1982، ثم أسَّس مع مجموعة من رفاقه سنة 1984 ‘‘دعوة الإسلام’’ (The Call of Islam) وهي جمعية إسلامية مناهضة للأبرتهايد. أصبحت ‘‘دعوة الإسلام’’ لاحقًا جزءًا من ‘‘الجبهة الديمقراطية المتحدة’’، التي تأسست قبل ذلك بسنة، وكانت تمثل تحالفًا لعدد من المنظمات الشعبية التي ظهرت كردّ فِعل على اقتراح الحزب الوطني الحاكم بتقسيم البرلمان إلى ثلاث غرف على أساس اللون، من أجل استقطاب الملَوَّنين من غير السود، الذين هم أساسًا من أصول هنديّة، عبْر إعطائهم بعض الامتيازات السياسية على حساب الأغلبية السوداء. وقد كان فريد إسحاق من القيادات الإسلامية المناهضة للأبرتهايد، بالتعاون مع العديد من المعارضين من مختلف الأديان والاتجاهات. أيضًا كان إسحاق من القيادات الفاعلة في منظمة ‘‘المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام’’.
بعد سقوط نظام التمييز العنصري، سافر فريد إسحاق سنة 1990 إلى ألمانيا لدراسة هيرمينوطيقا١ الكتاب المقدس، ثم ارتحل إلى المملكة المتحدة، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في هيرمينوطيقا القرآن الكريم في جامعة بيرمنغهام. وهكذا، يكون إسحاق قد جمع في تكوينه بين الجانب التقليدي والجانب الحديث، وبين دراسة التراث اليهودي المسيحي من ناحية، ودراسة التراث الإسلامي من ناحية ثانية. عمل أستاذًا في العديد من الجامعات في العالم، من بينها: سيمينير الاتحاد اللاهوتي في نيويورك، وجامعة هارفرد، وغيرهما.
عاد فريد إسحاق إلى جنوب إفريقيا سنة 2009، ليعمل أستاذًا في الدراسات الإسلامية في جامعة جوهانسبورغ. ومن بين الجمعيات التي نَشِط فيها، جمعية ‘‘مسلمون إيجابيون’’، التي تعمل على مساعدة المسلمين الحاملين لفيروس نقص المناعة المكتسَبة؛ ما يعبِّر عن اهتمامه بقضايا المهمَّشين والمضطهَدين، ليس بسبب اللون والطبقة فقط، ولكن بسبب المرض والأحكام المسبقة أيضًا.
جدير بالتنويه، أن فريد إسحاق قد عمل مفوَّضًا من قِبل الرئيس نيلسون مانديلا (تُوفِّي سنة 1999)، لقضايا المساواة بين الجنسين. أيضًا عُرف بمناصرته للقضية الفلسطينية، وبتأييده الناشط للحركة العالمية لِمُقاطَعة البضائع الإسرائيلية BDS.
فكـــــره
يُعتبر فريد إسحاق من أبرز المفكرين المسلمين المعاصرين، الذين تأثروا بلاهوت التحرير. وهو تيار لاهوتي مسيحي كاثوليكي، ظهر في أميركا اللاتينية، ثم انتشر في العالم عابِرًا مختلف المذاهب والأديان. وهو فكر يعطي المستضعَفين والمهمَّشين الأولويّةَ، وينتقد الفكر الديني الذي يتحالف مع السلطة ليبرِّر جبروتها وظلمها، أو الذي يشجع المؤمنين على الاستسلام وعدم مقاومة الظلم. في السياق التاريخي لإفريقيا الجنوبية، يتمثل هذا الظلم الاستبدادي بنظام التمييز العنصري «الأبرتهايد»، وبكل مخلَّفات الاستعمار والهيمنة. ومِن الوجوه الهامة لهذا التيار في جنوب إفريقيا، المطران الأنغليكاني ديسموند توتو Desmond Tutu.
من المفكرين المسلمين الذين تأثر بهم إسحاق، المفكر الباكستاني فضل الرحمن (تُوفِّي سنة 1988)، لكنهما لم يلتقيا مباشرة، وإنما كُتُب فضل الرحمن كان لها كبير الأثر في توجيه فكر إسحاق، خاصة ما تعلق منها بالجانب النقدي التاريخي، واعتبار سياقات الفهم والتفسير القرآني.
لعل من أهم كتب فريد إسحاق، التي نجد فيها تطبيقًا للمناهج والمقاربات الجديدة في دراسة القرآن الكريم، كتابه ‘‘القرآن والتحرير والتعددية، نظرة إسلامية إلى التضامن بين الأديان ضد الاضطهاد’’:
Farid Esack, Qur’an Liberation & Pluralism: An Islamic Perspective of Interreligious Solidarity Against Oppression, Oneworld Publications, Oxford, 1997.
وهو كتاب يجمع بين الخبرة العملية والاجتهاد النظري، إذ يرى المؤلفُ فيه أن الوعي بالمسار الشخصي، يجعل القارئ شريكًا في تتبُّع خطوات تُشكّل الأفكار وسياقات تَولُّدها.
من الإسهامات الهامة لفريد إسحاق في الفكر الإسلامي المعاصر، جهوده في بَلورة رؤية إسلامية تعددية، تنظر بإيجابية إلى الآخر المختلف، ما يقتضي نقد النظريات الإقصائية، وبيان تَهافُتها قرآنيًّا وواقعيًّا. أيضًا يتطلب قبولُ التعددية الدينية إعادةَ النظر في مفهوم ‘‘الكفر’’، باعتباره سلوكًا رافضًا لنعم الله، ومتواطئًا مع الظلم والظالمين، وليس مجرد انحراف في العقيدة.
يؤكّد فريد إسحاق على ضرورة التضامن بين مختلف الأديان، من أجل خدمة الإنسان والقيم المشتركة، والجهاد المشترك ضد الظلم والاستبداد وأصناف الاستغلال. ولا شك أن تجربة إسحاق في مجال الحوار بين الأديان كانت جِدَّ مُفيدةٍ في هذا المجال. فالممارسة التحريرية أو أخلاق التحرر، تَحظى بالأولية لديه بوصفها معايير إنسانية جامعة.