ما العلاقة بين التراث وإيمان المجتمع بذاته؟ قبل ثلاث سنوات سمعت بِخبرةٍ في تاريخ الدانمارك من أواسط القرن التاسع عشر، تُجسد العلاقة العضوية بين التراث وإيمان المجتمع بذاته. هي خبرة في التأثير في الوعي القومي، نشأت على يد رجل اسمه نيكولاي غروندفيغ (1783-1872)، كان معلمًا وفيلسوفًا وشاعرًا ومؤرخًا وقِسِّيسًا ورجلَ سياسة.
مع أن الدانمارك كانت قوة لا بأس بها على الصعيد الأوروبي في القرن السادس عشر، إلّا أن الحروب الدينية في ذاك القرن وما تلاه، ثم الحرب مع السويد، أفقدت الدانمارك ما يساوي ثمانين في المئة من أراضيها، وأفقرت اقتصادها؛ ما جعل من الدانمارك والدانماركيين بلدًا وشعبًا منكسِرَيْن. ثم أتت سياساتُ النهوضِ وعمليتُه مبنيّةً على عمل مفكرين من ضمنهم غروندفيغ. فإلى جانب الإصلاح الدستوري، والقانوني، والاقتصادي، والسياسي، عمل غروندفيغ على إدخال تعليم التراث في المدارس وفي معاهد تثقيف الكبار التي أنشأها، ركّز فيه على غنى التراث الدانماركي المتنوع، والضارب في التاريخ. فمع أنه قِسِّيس، لم يقتصر على الحِقبة المسيحية، بل أعاد مكانة الثقافة القديمة الإسكندنافية، واستطاع إعادةَ بناءِ ثقة الدانماركيين بأنفسهم، من خلال اكتشافهم لغنى تراثهم، وللقيم الأساسية التي تمتّع بها الدانماركيون عبر التاريخ.
هذه الثقة سرعانَ ما تَبيّنَت نتائجُها اقتصاديًّا وتنمويًّا، إذ إنَّ الشعبَ المنكسِر استعاد الإيمان بنفسه، فأصبح شعبًا فعّالًا منتِّجًا بنّاءً، وازدهر الاقتصادُ والسياسة والقانون والعلم، وارتفع مستوى الحياة وتحسّنت نوعيّتها؛ ما جعل من الدانماركيين اليوم الشعبَ الأكثر سعادةً في العالم، بحسب دراسة مؤشر السعادة العالمي للعام 2016.
أظنُّه من الضروري اليوم أن نفكّر ونسألَ معًا: كيف يمكن أن يُحتذَى بهذا المثال في أوطاننا التي عانت في القرن الماضي، المأساةَ تلو الأخرى؛ ما جعل اليأسَ وفُقدانَ الثقة بالذات متفشِّيَيْنِ، وما أفرز التمسكَ بالانتماءات الضيّقة، والتعصّبَ لها على حساب الانتماءات الوطنيّة؟! فالسياسات التي تهدف إلى إعادة الثقة لشعوبنا بما عندها من تراثٍ وتنوع، وقيمٍ كالإخاء والتضامن والانفتاح وغيرها، لا يمكن إلّا أن تنعكس إيجابًا على صورة شعوبنا لأنفسها، وعلى إنتاجيتها، وعلى علاقاتها بالعالم.
إنَّ بلدانَنا العربية من أغنى البلدان في العالم بتراثها المتنوع الضارب في التاريخ. فإلى جانب العرب نجد الأمازيغ، والأقباط، والسريان، والأشوريين، والنوبيين الأصيلين في المنطقة؛ إلى الأرمن، والأكراد، والتركمان، والشيشان، والشركس، وغيرِهِم ممن وفدُوا في القرون السابقة ووجدوا ملجأً ووطنًا في هذه البلدان؛ ومن المسلمين بشتَّى مذاهبهم من سُنَّة، وشيعةٍ اثْنَيْ عشرية، وزيدية، وعَلَوية، وإسماعيلية، ودروز، وإباضية؛ إلى المسيحيين بكنائسهم المختلفة، وإلى اليهود، والسامريين، والصابئة المندائيين، والإيزيديين، والزردشتيين، والكاكائيين؛ وإلى أديان جديدة لجأت إلى أراضي العالم العربي هربًا من الاضطهاد؛ نرى أن عالمنا يزخر بتنوع يُغنِي ما نحن عليه، حتى في لا وعيِنا.
فكم أَحْرَى أن نعملَ على الاعتراف بهذا التنوع على الصُّعُد الرسمية، خاصةً تلك المعنيةَ بالثقافة والتعليم والإعلام.
وكم ستتغير نظرتنا إلى أنفسنا إنِ اعتبرنا أن عروبتَنا تغتني بهذا التنوع، وأن أمجادَها تمتد إلى الحضارات العريقة القديمة التي نبتت في أراضينا وأغنت الأرضَ كلَّها، كالحضارة الفرعونية، والسومرية، والفينيقية، وغيرِها؛ وتمتدُّ إلى صمودنا وإنجازاتنا وإصلاحاتنا في القرون الأخيرة، التي سهر عليها أبناءٌ وبناتٌ من الطوائف والأديان والإثنيات والثقافات المختلفة في بلداننا. يقول الأب فادي ضو في مقاله "من هو العربي" إنه "يقتضي اعتمادَ مفهومٍ حضاري للعروبة، يكون جامعًا للتعدد الإثني والثقافي والديني والفكري، وقائمًا على منظومة قيميّة جامعة".
ومن ناحية المكونات المختلفة في مجتمعاتنا، فإن الاعترافَ بدورها كمكوّن لثقافة كل من بلداننا ولهويتنا الجامعة، ثم تثمينَ هذا الدور في التربية والإعلام والخطابات الرسمية، يُوقِفان الهجرة الثقافية لهذه المكونات التي غالبًا ما تشعر بأنها مهمشة، ويعيدان لها الثقة للمشاركة البنّاءة في المجتمع.
وهنا لا بد لي من التنويه بالسابقة التي بدأها الأزهر الشريف في إعلاناته الأخيرة منذ سنة 2011، التي أعطت مثقفين غيرَ مسلمين، الصوتَ للتفكير مع الأزهر في مستقبل مصر، وفي الحريات العامة، ودَعَت المسيحيين من العالم العربي إلى التفكير ضد الإرهاب، وفي المواطنة والعيش معًا.
ختامًا، إن التطرف مرتكز على مبدأ نفْيِ التنوع، وعلى القطيعة مع التراث، وهو يستقي قوّته من قدرته على تخويف البرِيَّة وأذيتها. لذا، فإن مكافحته تأتي من الاعتراف بالتنوع على أنه غِنًى لأوطاننا، ومن استقاء القوة من قيمنا المشرقة عبر التاريخ، التي جعلت من بلداننا ملجأً، ومناراتِ صمودٍ في وجه النكبات والنكسات، وقدّمت من أبنائها وبناتِها شهداءَ ووجوهًا إصلاحيةً متعددةَ الانتماءات، أفنَوْا حياتَهم لخير البريّة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.