بعد مرور سنوات طويلة منذ انطلاق انتفاضات الربيع العربي وثوراته في العام 2011، تغيَّر المشهد العربي كثيرًا، إذ عكس مبادئ خطاب الربيع العربي الحر إلى خطاب طائفي تفريقي، أدى إلى إحداث الفُرقة في أوساط المجتمعات المعروفة بمكوناتها الإثنية، أو العرقية، أو المذهبية المختلفة.
فبدلًا من انتشار خطاب تعدُّدي منفتح على العصر، حسبما نادى بذلك الشباب في الميادين والساحات في مطلع سنة 2011، خرج علينا مشروع التمايزات الطائفية والقَبلِيّة، وعمل على إحياء التوترات وتعميقها بل وتحويلها إلى صراع، من خلال الاستثمار الرمزي والسياسي والاجتماعي إلى درجة المبالغة. في خِضمِّ ذلك تجد التقلب في المزاج السياسي، قد اجتاح عقلية من يريد أن يفصل كل مجتمع بِهَوًى طائفي وعنصري، وذلك بالسؤال إنْ كنتَ عربيًّا أم أعجميًّا؛ أمَّا إنْ كنتَ بحرينيًّا فأكثر سؤال يُطرح: إنْ كنتَ "سنِّيًّا أم شيعيًّا".
هناك من يريد أن يتعرف إلى الشخص الذي سيتعامل معه على أساس تصنيفه المذهبي، وهذا يعكس مدى عمق ثقافة الطائفية الاجتماعية أو السياسية وتغلغلها في مجتمعاتنا العربية، وأيضًا يعكس مستوى التفكير الذي نزلنا إليه، وكيف أن هذا المستوى نتج من ممارسات تنامت بمرور الوقت، لمصلحة الفئة المستفيدة من تفريق المجتمعات.
صحيح أن الأمور معقدة ومختلفة بين بلد وآخر، إذ تجد في بلد مثل سلطنة عُمان، أنَّ الحديث بهذا الموضوع ليس بالخطورة التي نراها في بلد آخر، ثم إننا لو عقدنا مقارنة بين ما يحدث في البحرين والكويت، وطريق التعامل مع نتيجة الأحداث التي تُسببها الطائفية، فإن الاختلاف كبير بين البلدين الخليجيَّين من عدة نواحٍ. لقد كان هذا أول ما لفت انتباهي، عندما رجعت من مسقط رأسي الكويت إلى وطني البحرين في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إذ لم أجد مثل هذه الأسئلة، ولا حتى إشارات الأصابع التي تشير إلى أي مجموعة تنتمي إليها، أو توضح الأصل ومن أي حي أو منطقة، بل لم نكن في الكويت نعرف إن كان الشخص الذي يقف أمامنا سنِّيًّا أم شيعيًّا. أما في البحرين، فإن الوضع يختلف، وكل شيء مفصَّل وواضح، وكل صنف له مقام واعتبار ومسار حياتيٌّ مختلف.
إن ما يحدث اليوم ليس فقط أزمة كبيرة، وإنما هو فتنة كبرى تتغذى بتاريخ من الصراعات، وهو ما أغرق بلدانًا عديدة في تناحرات متعددة، تُشغلها عمّا خرجت لأجله في سنة 2011. إن الاختلاف والتنازع بين السنة والشيعة مثلًا، كان موجودًا على مر القرون الماضية، ولكنَّ أيًّا منهما لم يُلغِ الآخر من الوجود، ولن يستطيع. إلَّا أنَّ تحشيد المنطقة عبر خطاب طائفي، ربما يُراد منه إعادة تقسيم الدول على أسس جديدة، مختلفة عن اتفاقية سايكس-بيكو قبل مئة عام.
لقد أشار الباحث توبي ماثيسون في كتابه "الخليج الطائفي" إلى الممارسات الطائفية المنطلقة من الخليج، والتي استطاعت أن تصد الربيع العربي، وتُحوِّله من المطالبة بالحقوق والحرية، إلى صراع وجود بين طوائف، وذلك بهدف الاستحواذ على السلطة ومنع الإصلاح. ولذلك، جرى اختراع خطاب يتحدث بموضوع "التهديد الشيعي"، في مقابل خطاب يتحدث بـ"التهديد السني". وبدلًا من معالجة المظالم الحقيقية للمواطنين، أو تنفيذ بعض الإصلاحات السياسية، حسبما طالب به المتظاهرون في الميادين، جرى تدشين خطاب مملوء بالكراهية لتبرير استخدام سياسة القبضة الحديدية، وقمع أي جهة تطالب بالإصلاح.
إن قراءة المشهد الحالي في منطقتنا المضطربة تثير تساؤلات كثيرة، منها: كيف سيكون شكل دول المنطقة؟ وهل يمكن أن تذوب هذه الصراعات وتدفع باتجاه حركة تقدمية تترفع عن الأمور التي تُزعزع الثقة وتُفرِّق المجتمعات، أيْ كحركة تدافع عن الإنسان أولًا دون اعتبارات أخرى كالمذهبية مثلًا؟ يمكن استخدام خطابات الكراهية من أجل تغييب مبادئ الحياة الكريمة للجميع، والحريةِ لكل فرد، والمساواةِ الفعلية أمام القانون، والمشاركة العملية في صنع القرار، ولكن ذلك لمدة قصيرة فقط؛ لأن طبيعة البشر ترفض الذل والهوان، وترفض أن تكون وسيلة للبلاء.
إن الدول الخليجية قامت على مبادئ تقليدية وتفاهمات، خلقتها الحالة الاستهلاكية والرفاهية بسبب مدخول النفط، ولكن في السنوات الأخيرة بدأت هذه المعادلات تتغير، وأصبح هناك منطق مختلف، وبدأت تظهر معادلات سياسية جديدة. لكن الخشية هي أنَّ أيَّ مسعى لتأسيس التفاهمات الجديدة على العصبية الفردية أو النزعة الطائفية، لن يستطيع أن يكون بديلًا حقيقيًّا لِما كان يتوفر سابقًا.
لقد مرت مناطق أخرى في العالم، مثل أميركا اللاتينية، بظروف قاسية جدًّا، بل إنه كان هناك في الماضي نوع من التحالف الإقليمي، المناهض لمفاهيم المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية؛ أمَّا اليوم فتلك المنطقة تعيش حالًا أفضل ممّا كانت عليه، في حقب كانت تبث الرعب في نفوس المواطنين لفترات طويلة جدًّا. ولقد كان هذا الأمر سببًا وجيهًا في دفع مجتمعات أميركا اللاتينية إلى بناء دول تحرّرت من مفهوم القبضة الأمنية، وتحوَّلَت إلى مفهوم دولة المواطنة التي تكفل قيام نظام سياسي عادل.
ولو قارنَّا الوضع بما هو واقع في الساحة العربية، فلا يمكن إقصاء أي فرد بسبب عرقه أو دينه أو مذهبه، وهذا هو التحدي الأكبر في مرحلة تشهد تغييرًا في المزاج السياسي، سواء على مستوى العلاقات بالدول، أو بين فئات المجتمع. فالصديق أصبح عدوًّا، والعدوُّ أصبح صديقًا، وحتى المعايير الدبلوماسية تغيرت مع السعي للخروج من فترة مضطربة. ولكن هذا السعي لن يأتي بأي استقرار؛ لأنه لا يجعل كرامة الإنسان وقيمته محورًا جوهريًّا لمساره، ومِن ثَمَّ فإن المردود سيكون سلبًا.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.