اِستوقفتني مَشاهد العنف والتخريب المتكرّرة، التي طالت كثيرًا من مدننا إبّان الثورة التونسية، والتي لا تزال آثارها إلى اليوم شاهدًا على ما حدث حينها، وكذلك استوقفني مشهد بعضهم وهو ينهب ويسرق ممتلكات غيره دون أيّ رادع. أسئلة عديدة خامرتني حينها، وتفاقمت مع بروز العمليّات الإرهابية، التي كانت تقطف شبابًا مزهرًا من الأمن والجيش في مقتبل العمر.
أليس معظم هؤلاء قد تَربّى في مِحْضَن المدرسة التونسية بمختلف مراحلها، التي من أُولى أهدافها التربية على قيم المواطنة؟ فلماذا لم تُثمر هذه التربية لمدّة تفوق العشرين عامًا مُواطنًا صالحًا مُحترِمًا لحقوق غيره؟ ما الحلقة المفقودة في علاقة الفرد بالدولة وعلاقته بالآخر، والتي تجعله يتجاوز القوانين غيْرَ عابِئ بعواقب أفعاله؟
إنّ التفكير في هذه المسألة يكشف لنا عن سببين على الأقلّ، يكمنان وراء غياب تَمثُّل الفرد بقيم المواطنة. السبب الأوّل هو التّعارض بين النصّ والممارسة، أو بين القول والفعل؛ والسبب الثاني عدم تهيئة التربة الصالحة لترسيخ هذا المفهوم، من خلال التأصيل له ضمن قيمنا الإنسانية وتعاليمنا الدينية، الّتي كثيرًا ما ندّعي التشبّث بها.
إنّ المتأمّل في البرامج التعليميّة بمختلف مستوياتها، يلاحظ أنّ مِن أوكد أهدافها ترسيخ قيم المواطنة ومبادئها، ويَبرُز ذلك خاصّة في برامج التربية المدنية بما تحتويه من مضامين تُعلي من شأن الحقوق والحريّات. غيْر أنّ قيم المواطنة هذه ومقتضياتها، تظلّ حبيسة القول لا تتجاوزه، يَدرسها التلميذ ليَخُطّها في كرّاسِه، والويل كلّ الويل له إن تَمثّل أو طالب بها على أرض الواقع. وكثيرًا ما تكون المفارقة بين ما يُدرَّس وما يُمارَس داخل الفصل ذاته، إذ قد يلجأ الأستاذ في درس حول حريّة التعبير مثلًا، إلى إسكات التلميذ وعدم إعطائه الفرصة الكافية للتعبير عن آرائه وأفكاره، خوفًا من تبعات ما قد يصدح به ويتجاوز جدران الفصل. إنّ هذا الفعل من شأنه أن يجعل التلميذ/الفرد لا يتمثّل بهذه القيم، ولا يدرك فعاليّتها وجدواها.
لعلّ ما يزيد في تعميق هذا المشكل، فقدان وسيلة "التربية بالقدوة". فهذا الطفل الذي ما زال في طور بناء شخصيّته، يلحظ هوّة بين ما يُقال له وما يُطبّق، ابتداء بالعائلة وانتهاء بالمجتمع، إذ كثيرًا ما يعمد الآباء إلى نهي أبنائهم عن جملة من السلوكات السيئة، وهم يأتون بمِثلها أو بما يتجاوزها أطوارًا. فكيف يمكن لأب أن يغرس في أبنائه قيمة الصّدق وعدم الغش مثلًا، وهو يأتي بخلاف ذلك؟ وكيف لهذا الطفل أيضًا أن يتمثل بقيم الحرية والمساواة والعدالة، وهو يرى حاكم البلاد يقمع الأفراد وينتهك حقوقهم ويسلبهم حريّاتهم، أوَانَ التلفّظِ بها؟ إنّ اهتزاز صورة القدوة من شأنه أن يجعل التربية على المواطنة، تقف عاجزة عن ملامسة روح الفرد وجعلِه مواطنًا صالحًا، واعيًا بحقوقه، ملتزما بواجباته، محترِمًا لقوانين بلاده.
أمّا السبب الثاني الكامن وراء فشل العائلة والمدرسة في غرس قيم المواطنة في الناشئة، فيَعود إلى التّركيز على كلّ ما هو شكلي في الدّين دون ملامسة جوهره، أو التركيز على ما يروم إرساءَهُ من قيم. فعدمُ الرّبط بين التربية الإسلامية والقيم المواطنية في عمليّة التربية، من شأنه أن يجعل التلميذ/الفرد يستبطن في ذهنه فصلًا بين قيم المواطنة والقيم الإسلامية، في حين أنّهما وجهان لعملة واحدة. ولعلّ ذلك ما يفسّر ارتكاب بعضهم لعمليات النهب والسرقة للممتلكات العامة، وقتل الأبرياء باسم الدّين، ظنًّا منه أنّ ذلك جائز، متناسيًا أنّ القيم الإسلامية تمنع السرقة والتعدّي على متاع الآخرين، وارتكاب العنف بمختلف أشكاله. إنّ عدم تمثّل الأفراد بجوهر قيم المواطنة التي هي أساسًا جوهر الإسلام، وعدم إدراكهم لهذا الارتباط بين مفهوم المواطن الصالح والمسلم الصالح، يعود إلى الفصل في عملية التربية بين القيم المدنية والقيم الإسلامية.
والحقيقة أنّ القيم الإسلامية خير رافد للقيم المدنية، إذ مِن أُولى الشروط التي يجب أن تتوافر في المسلم، احترامُه للآخر وعدم تعدّيهِ عليه بأيّ شكل من الأشكال، مِصداقًا لقوله تعالى {أنَّهُ من قتَل نَفسًا بغَيرِ نَفسٍ أو فَسادٍ في الأرضِ فكأنَّما قتلَ النَّاس جَميعًا ومَن أَحيَاها فكأنَّمَا أحيَا النَّاسَ جمِيعًا} [المائدة: 32]. أليس في ذلك تأكيدٌ لِحقِّ الفرد في الحياة، وفي احترام حُرُماته؟ ثمّ أليست تلك دعوةَ الله لنا إلى إشاعة الحبّ والسلام والتراحم؟
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.