في أحد شوارع عَمّان في الشتاء القارس، بعد منتصف الليل، وأنا عائدة من أحد الأفراح، صادَفْتُه. طفلٌ لا يزيد عمره عن ثماني السَّنوات، يرتجف من البرد، يحمل في يَدِه أساوِرَ مِن خرز، يُحاول بيعَها لمُساعدة والِده، ووالدتِه التي خرجَتْ للتّوِّ من ولادة جديدة، طفلٌ خامس أَتَتْ به إلى هذه الحياة البائِسة -كما قالَ لي الصّبيّ-. مصيره لن يختلف عن مصير أخيه، يبيع الأساور عند إشارة مرور أُخرى بعد سنوات.
تذكّرْتُ هذه الحادثة، وأنا أُتابع النجمة اللبنانيّة نادين لبكي، وهي تتحدّث في مهرجان "كان" الذي احتفل بفيلمها كفرناحوم، فتقول: "الأطفال الذين لا يتلقَّوْنَ الحبّ هم سبب تعاسة هذا العالم". حينها تَصوَّر لي فجأةً هذا الطفلُ المرتجف الخائف، وتساءلْتُ: لماذا يُنجب مَن لا يُحبّ أطفاله؟!
عندما رأيْتُه، اعتقدْتُ أنّه يتيم؛ إذ إنّ عقلي لا يُصدّق أنْ تبعثَ أُمٌّ أو أبٌ فِلْذَة كبدهما، إلى مِنطقة بعيدة دون أيّ مراقبة، فيَستخدم الطِّفل عدّة وسائل نقلٍ عامّة، "يَتعَرْبش" (يتعلَّق) بها، حتى يصل إلى تجمُّعات ميسورة يحصل منها على بعض المال؛ باستعطاف الناس واستمالة شفقتهم. كيف ماتَ قلبُ الأُمِّ لتقذف بابنها إلى الشارع في هذا العمر المُبكّر؟!. وإنْ كان الفقر هو الدافع، فمِن الأَولى أن تتوَقَّف عن الإنجاب، وتعمل لتأمين مُتطلّبات أبنائها، بدَلًا مِن اعتمادها هي عليهم في التَّسوُّل.
حاولْتُ أنْ أكونَ مُتفهِّمة في تفكيري، فلم أستطِعْ. إنْ كان الأبُ والأُمُّ يجهلانِ ما يمكن أنْ يتعرّض له طفلٌ في هذا العمر في الشارع بعد منتصف الليل، فهما لا يَصلُحان للأُبُوّة والأُمومة؛ لِجَهْلهما. والمصيبة الكُبرى أنْ يكُونا واعيَيْنِ تمامًا، مُدركَيْنِ ما يُمكن أنْ يَحصل، ويُصرّانِ على أنْ يَزُجّا به وبإخوته في الشوارع.
قصّة أُخرى سمعْتُها، عن فتاةٍ زَوَّجَها والدها وهي طفلة، قائلًا بالحرف الواحد: "أريدُ أنْ أرتاح من لُقمتها، لديّ عشرة غيرها". فكأنّ الفتاة هي مَن اقتحمَتْ حياته غصبًا، وفرضَتْ نفسها عليه، وعليها اليوم أنْ تُسدِّد فاتورة قلّةِ إدراكه، عندما كان يُنجبُ الطفل تِلْو الآخر، دون تفكير في عدد اللقم التي يجب أنْ يُؤمّنها. لا يُمكن أنْ أتخيَّل أنّ أبًا أَحَبَّ طفلته، يُمكن أنْ يبيعَها بيعًا لرجلٍ في ضِعف عمرها أو يزيد، تحتَ أيِّ ذريعة كانت، لا أتخيَّلُ أنّ هذا الأبَ عرَف أصلًا معنى الأُبوّة أو الحُبّ.
الكثير من قصص الإهمال لا تظهر للعيان كالقصَّتَين السابقتَين، بل تبقى في سريرة الطفل كجُرح لا يندمل، حتّى وإنْ وصل إلى سِنِّ الشيخوخة، مثل: العنف اللفظيّ أو الجسديّ، وعدم الإهتمام الناتج عن تفكك الأسرة حيث يَرمي كلٌّ مِن الوالدَين مسؤوليته عن الأطفال على الآخَر، وغيرها الكثير.
مِن المُضحك المُبكي أنّ بعض هؤلاء الأُمّهات والآباءِ غيرِ المسؤولين، الذين يُمْعنون في ظلم أبنائهم، هم أنفسُهم الذين يُطالبونهم بِبِرِّ الوالديْنِ عند الكِبَر، وكأنَّ الأُمومة أو الأُبوّة شهادة شرَف، يَحصل عليها الفرد بمجرّد الإنجاب، وهذا أبعدُ ما يكون عن الصّحّة. ليستِ الأُمّ هي التي تُنجب، بل الأُمُّ هي التي تسهر على رعاية طفلها، وتتألّم لألمه، وهي التي تصحو ليلًا لتُريحه من كابوس يُقضُّ مَضجعه في نومه، أو خوفًا عليه مِن نسمة باردة قد تُسبّب له المَغْص. والأبُ ليس اسمًا مكتوبًا في شهادة الميلاد، بل هو الجبل الذي يقف أمام الريح ليحمي عائلته، هو الساعي في الأرض لتأمين احتياجاتها، هو الأمان لأبنائه وبناته.
لقد عانت بلدانُنا العربيّة آثارَ إهمال العقل عقودًا طويلة. وتَبعيَّةُ النصوص والتفسيرات الجامدة، التي لا تتحرك تَبعًا لتحرُّك المجتمعات وتطوُّرها، أدَّت إلى تراكُمٍ في المشكلات الاجتماعية. لهذا، فإنَّ لكلٍّ من الإعلام والمدارس ودُور العبادة، أدوارًا مهمَّة في الإرشاد المجتمعي والعائلي، آخذةً بعين الاعتبار تغيير نمط الحياة، وارتفاع تكاليف المعيشة، وضرورة توفير البيئة الصحية والنفسية المناسبة لتربية الأبناء .
باتَ من الضروريّ اليومَ، توعيةُ المُقْبلين على الزواج، بمعنى الأُمُومة والأُبُوّة، وبحجم المسؤوليّة المُترتّبة عليهما. فطِفلُ اليوم المُهمَلُ المُنكسِر، هو رجل الغد الناقم المنتقم. ولإصلاح المجتمع، يجب علينا أوّلًا إصلاح الفرد. والفرد ليس مُلكًا للأبويْنِ، هو ابن المجتمع. ولكي يكُون ابْنًا بارًّا بوالديْه ووطنه، يجبُ أوّلًا أنْ يُعطى كاملَ حقوقه، ليس في الغذاء والدواء فحَسْب، بل في الرعاية والأمان والحنان.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.