في بداية الألفيَّة الثالثة، وأثناء فترة الدِّراسة الجامعيّة، كنتُ أعمل في جمعيّة لجمع التَّبرُّعات لدعم قطاعي التعليم والصحة. التَقيتُ حينها بشابٍّ بدَا أنّهُ في منتصف الثَّلاثينيَّات، كلَّمَني عن دوافعه إلى دعم القِطَاع الصحّي، وشارَكَني في قصّته مع المرض ووفاة صديقه، شارِحًا لي بعضَ الإعاقات الاجتماعيّة، التي يُسبِّبها كَونُ الشخص مُصابًا بفيروس مُخيف، ومُبيِّنًا كَمَّ الكُره الذي قد يتَعرّض له من قِبل الجميع. أنهَيْنا العمل، ثم صافحني ومضى في طريقه، تاركًا لي العودة بذاكرتي الشَّخصيّة إلى الماضي، وأنا أُحدِّق دون تركيز بِباطِن كفِّي.
في بداية المَرحلة الإعداديّة، تَطلَّبَ استكمالُ أوراق سَفَرِي، قيامي بإجراء فحص الإيدز، لأنَّني كُنتُ قد قطعتُ سنّ البلوغ. فاضطَرَّني ذلك إلى الغياب عن المدرسة، وهو أمرٌ قَلَّما ألجَأُ إليه إلّا نادرًا جدًّا. في اليوم التالي، عندما سألني بعض أصدقائي عن سبب تَغيُّبي، أجَبتُ وبكلّ براءة بأنّه كان عَليّ القيامُ بإجراء فحص الإيدز. وكم ندمتُ آنذاك على التصريح بهذه المعلومة! لم أكُن أعرفُ كثيرًا ما الإيدز. كنتُ أعْلمُ بوجوده، وسمعتُ بأنّه فيروس يصيب الدم من خلال المشاركة في فرشاة الأسنان أو "التقبيل في الفم" أو من خلال استخدام الإبر التي كُنتُ أَخافُها أصلًا.
اِبتَعد الأصدقاء عنّي كلِّيًّا، وصار يُشار إليّ على اعتبار أنني مصابة فِعلًا بالإيدز. بدأوا يَسخرون منّي، ويرفضون الجلوس بقربي أو التعامل معي، مع أنني أخبرتهم بأنّني قُمتُ بإجراء فحص فقط، لأنّ إجراءات السَّفر تطلّبت ذلك، لكنّ ذلك لم يُغيّر شيئًا. وفجأةً، أصبَح من المقبول التَّنمُّر عليّ، وملاحقةُ الأنظار لي في الباحة، مع أصابع موجَّهة نحوي تُشير إلى أنّ أصحابها يَعرفون أمْري، وأنّ بيدهم فضْحِي بينَ باقي الطلاب، وتحويل حياتي إلى جحيم. وهكذا، بدأت مرحلة مقاطعتي، قبْل أن ينتقل هذا التَّنمُّر، لِيَشمل أيضًا كلَّ مَن كان يَكسرُ قوانين مقاطعتي، ويُقرِّر التَّواصل معي. وبذلك، أصبحتُ أنا نفسي الفيروس.
بعدما حصلتُ على نتيجة الفحص، حمَلتُها معي إلى المدرسة، لأدافع بها عن نفسي. ولِسوء حظّي، كان قد كُتِب قُرب خانة النتيجة: "سلْبِيّ"، وهو الذي لم يَزِد الأمور إلّا سوءًا في المدرسة. خِفتُ بدايةً، لكنَّ الرَّجُل في المَخْبَر أفهمَنِي أنّ النتيجة السَّلبيّة تعني عدم وجود الفيروس، وهذا أمر جيّد؛ إلّا أنّ بعض الأصدقاء، أقنَعوني بأنّ أهلي هُم مَن طلَبوا من المَخبريّ أن يقول لي ذلك، وبأنني مصابة بالإيدز وسأموت قريبًا. لذا، كان الأصدقاء يتقزَّزُون من التقرّب منّي، ولا يريدون مخالطتي.
بِتُّ أُفضِّل أنْ أكُون وحيدةً في المدرسة، بعْدَ أن كنتُ دائمة الحركة والكلام، وصاحبةَ مبادرةٍ في ساحات اللعب. الأسوأ في الموضوع، لم يكن الأصوات التي كنتُ أسمعها في المدرسة، بل تلك التي أسمعها عندما أضعُ رأسي على المخدّة لأنام. كنتُ أرى نفسي ميتةً، وأسمعُ أصواتًا تقول لي بأنني شخص سيِّئ، لأنني حصلتُ على فيروس يَحملُ دلالاتٍ سيِّئةٍ جدًّا. ورُوَيدًا رويدًا، باتت هذه الأصوات أقوى من تلك التي كُتبَت في ورقة نتيجة التحليل. اقتنَعتُ بأنني أحملُ الفيروس، وكنتُ أستيقظُ ليلًا، وأذهَبُ لأنظُر إلى أخي وباقي أفراد العائلة وهم نائمون، وأفكّر في أنهم لا يَعلمون بأنني مصابة، وأسأل نفسي هل كانوا يكرهونني -لو عَلِموا- كما فعل أصدقائي. كنتُ أدقِّق في وجوهِهم، وأحاول أن أَشبع منها لأنني سأشتاق إليها.
اِستَمرّ هذا الوضعُ أسابيع، انهارت فيها كلُّ المنظومة في عقلي. فلم يكن مهمًّا ما أوضحَه المَخبريّ، ولم يَعُدْ يهمّ أنّ عائلتي فيها عدد من الأطباء، الذين لا تَغيب عنهم هذه المعلومة. بِتُّ على قناعةٍ بأنني أحمل الفيروس، وأفكّر هل كان أهلي يُخفون الأمر عنّي، أمْ هل كانوا يعتقدون أنني سأموت بكلّ حال، ومِن ثَمَّ لا يستطيعون فعل شيء، حيث فضَّلوا ألَّا أعْلَم وحسْب! الكثير من هذه الأفكار والنظريات المتضاربة وغيرها، كانت تَدُور في رأسي.
بعدَ أسابيع، نسيَ الأصدقاء الموضوع، أو أنّهم/هنّ مَلُّوا منهُ. أمّا أنا، فكنتُ أنتظر أن أموت في أيّ يومٍ، ولا أذكرُ تمامًا كم مضى قبل أن أقرِّر مُواجَهة الأمر. عِشتُ بانتظار الموت، حتّى ملَلتُه أنا أيضًا. وفي يومٍ ما في درس عِلم الأحياء، كان الموضوع عن الدَّم وأمراضه. رَفعتُ يدي وسألتُ عن مرض الإيدز. يَومَها، كان عليّ أن أتَمالَك، وأُهَيْمِن على أوهام الموت والخوف، التي عاشت معي أوقاتًا طويلة، لِكي أُواجِه بها كلَّ المتنمِّرِين/ات.
قطَع شريطَ ذاكرتي صوتهُ من بعيد، يَهتف متهكِّمًا: "لا تُفكِّري طويلًا، ولا تَخافي من مصافحتي. فأنا الآن نظيف كلِّيًّا من الفيروس". قال ذلك وهو يُلوِّح بيده، ثم أدار ظهره، وغاب بينَ الجُموع.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.