بِلَهجة متعَجْرفة، كتبَت إحدى الفتيات تغريدةً، مُفادُها أنّها لا يُمْكن أنْ تُحبّ سوى رجل مِن جنسيّة معيّنة، مشترِطةً أنْ يكُون صاحب هذه الجنسيّة أصليًّا أبًا عن جدّ. ضحكتُ وأنا أقرأُ ما كتبَتْ هذه الفتاة؛ إذ إنّ تغريدتها أتَتْ بعد أنِ استلمْتُ نتائج تحليل حِمْضي النَّوويّ، التي أذهلتني بمعلومات عن أُصولي. أيضًا كنتُ قد شاهدْتُ برنامجًا وثائقيًّا، يتكلّم عن انبهار كلّ مَن قام بعمل التحليل، واكتشافه لأصولٍ وأعراقٍ لم يكن يتخيّل أنْ يراها في تحليل أصوله. وهذا تمامًا ما اكتشفْتُه بنفسي، إذ تَبيّنَ أنّ أعراقًا كثيرة شاركَتْ في تكويني، منها ما هو عربيّ ومنها ما هو غير عربيّ. فأنا خليط مِن: بلاد الشام، والجزيرة العربيّة، ومصر، وقبرص، وأناتوليا (أي الأناضول)، وجنوب آسيا. ثم إنَّ في أصولي أصلًا قِبطيًّا أيضًا.
سَعدْتُ بهذه النتيجة؛ إذ عَلِمتُ بأنّ لي أقاربَ وأَهْلًا في بلاد الله الواسعة. وهذا ما ظهرَ في قائمة الأقارب التي توَصَّل إليها التحليل، معَ تبيان درجة القرابة ولأيّ جيل تعود، لا سيّما وأنّني دائمًا ما كنتُ أشعر بأنّني أنتمي إلى الإنسانيّة، وبأنّ الأرض كلّها وطني. لم أكرَهْ عِرقًا أو ديانة في حياتي. وهذا ما شجّعني على المُضيّ في معركتي التي بدأْتُها قبل سنوات، وهي نشرُ جماليّة التنوّع الدينيّ والثقافيّ، ونبذُ كلّ أشكال العنصريّة والطائفيّة بين البشر.
لكنْ، هل يشعر العنصريّ أو الطائفيّ -الذي لا يتوقف عن التلميح أو التصريح باستعلاء على الآخرين- بذات الشعور، عندما يكتشف أنّ عِرقَه ليس أصليًّا كما يعتقد، أو أنّه يحمل جيناتٍ مِن بلاد يشعُر فيها بالفَوقيّة عليها، ويتعامل معَ سكّانها بعنصرية؟!
ربّما يكون تحليل الحمض النوويّ فكرةً جيّدة، تُفرَض على كلّ عنصريّ أو طائفيّ كتأديب؛ لِيَعرف أنّنا كلّنا على هذه الأرض إِخوةٌ وأَقارب، وأنّ أجدادنا تَلاقَوا في بلاد لا يَحمل فيها أهلُها جوازات سفر، وأنّهم كانوا أحرارًا في التنقّل والزواج، وأنّهم استقرّوا في البلاد التي أحبّوا الإقامة فيها بدون عوائق، وأنّ اللهَ جعل سكّان الأرض شعوبًا وقبائل؛ ليتعارفوا ويتزاوجوا، لا ليتكبّروا ويتفاخر بعضهم على بعض.
نحتفل بعد أيّام قليلة بِعِيد الحبّ. وهو مناسبة مُبهجة تُذكّرنا بحاجتنا إلى الحُبّ والاحتواء والتقبّل، في عالَم تَكثُر فيه الحواجز بين البشر كلّما ازداد تَقدُّمًا، وأيضًا تَكثُر فيه التصنيفات وتتعاظم. فالتقدّم العلميّ والحضاريّ فَصَلَ بين دول العالم الأوّل والثاني والثالث، والتطرّفُ الدينيّ صَنّف الدول حسب الدين والطائفة. أمّا في البلد الواحد، فالتصنيفات حدِّثْ ولا حرج: شماليّ أو جنوبيّ، شرقيّ أو غربيّ، مِن أصول مهاجرة أو لاجئ، أغلبيّة دينيّة أو أقلِّيّة دينيّة، مَدنيّ أو فلّاح أو بدويّ، فاتح البشرة أو غامق البشرة... وغيرها.
تصنيفات عزَّزَت التفرقة بين البشر. وبدلًا مِن أنْ نكُون شعوبًا وطوائف، لنتعارف ونندمج ونستفيد مِن هذا التنوّع الثريّ في خدمة أوطاننا، أصبح بعضنا يستخدم هذه التصنيفات لِبَثّ الكراهِيَة والعدائيّة. فكَثُر التناحر وزادت المشاحنات بين الناس، على أشياء لا يملكون فيها تغييرًا. ولو فَكّر الفرد لحظةً، لَعَرَفَ أنّ فخره هو بإنجازاته الفرديّة، التي يُحقّقها في حياته وأعماله، والتي يُساهم بها في إعمار الأرض، وفي التغيير الإيجابيّ الذي ينشره في محيطه؛ لا بأصلِه (حسَبِه ونسَبِه)، أو فصْلِه (نُطقِه وفصاحتِه)، أو طائفته. وهي أشياء وُلدَ حاملًا إيَّاها ومنسوبًا إليها، وليس له فيها أيّ فضل، ولا تنقص منه أو تزيده في شيء.
في عيد الحبّ، تَعالَوا نتذكّرِ الإنسانيّة التي تَجمعنا، ولْنَعُدْ إلى أُصولنا الحقيقيّة المتجرّدة مِن التصنيفات البشريّة، ولنحتفلْ بالحُبّ الذي لا يَعرف حدودًا أو حواجز أو أعراقًا، والحُبِّ الذي جعل مِن البسطاء عظماء، والحُبّ الذي أهدى مَن حُرمَ المَشي أجنحة، ومنحَ مَن حُرمَ البصر عُيونًا. فَلْنقرأْ عن مُعجزات الحُبّ، ولنَعرفْ أصولَه وقواعده. فكُلّ الحُبّ الذي تُعطيه، يعود إليك. والحُبُّ لا يَفنى، بل يتحول من شكل إلى آخَر، وبنكُ الحُبّ لا يَنضُب، إلّا إنْ أفلسْتَ أنت مِن العطاء. واعلمْ -يا رعاك الله- أنّ أعظمَ مَن أعطى الحُبَّ، هو شخص فاقِد له، قرّرَ أنْ يكونَ ينبوعًا ومَصدرًا للحُبِّ، بل خَلّاقًا له، بدلًا مِن أنْ يكُون ناقلًا له وحسْب. وفي هذا أعظمُ مراحل الإنسانيّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.