في المرحلة الابتدائية من دراستي، كُنت ومجموعة تلاميذ نحسد زملاءنا من غير الديانة المسلمة؛ لأنهم يُعفَوْن من حصة مادة التربية الإسلامية التي لا يدرسونها ولا يعرفون عن مضمونها أي شيء، ليس لسبب ما، فقط لأنهم من ديانات أخرى.
يخرج التلميذ أو الطالب غير المسلم من حصة التربية الإسلامية في المدارس العراقية، ولا يحضر يوم الامتحان النصف سنوي أو النهائي إن كانت مادة الامتحان ذاتها، تلك التي يخرج بسببها بقية الأيام.
عملية خروج التمليذ أو الطالب غير المسلم في الوقت المخصص لمادة التربية الإسلامية غير مُمنهجة، وليس هناك آلية عمل تُحددها، لكنها أصبحت سلوكًا قبل أن تكون نظامًا أو قانونًا أو توجيهًا. وهُنا الخطورة، أن تتحول الأشياء السلبية إلى سلوك بشكل سريع، دون ترهيب أو ترغيب.
ليس هُناك من يطرد الطالب غير المسلم من الدرس، لكن وجوده سيُثير الاستغراب، وأيضًا قد يكون هو الآخر غير راغب في البقاء لسماع معتقدات ورُؤًى تُخالف ديانته المسيحية، وهذا يُعيدنا إلى السلوك المُجتمعي غير المتقبِّل للآخر، وغير المُتحاور مع المُختلف.
خلق هذا السلوك المجتمعي-الحكومي فجوة بين التلاميذ والطلبة الذين لا يتعرفون بشكل دقيق وكامل إلى انتماءات بعضهم. فغير المُسلم أثناء الدراسة لا يعرف شيئًا عن الإسلام وما تتضمنه المادة الخاصة به، ولا يعرف المُسلم أي شيء عن بقية الديانات، فهذه الأخيرة غير مُتاحة في الأساس.
لا يُمكن أن تكون المناهج التربوية الموجودة في المدارس العراقية نابعة من فكرٍ يبحث عن دولة مواطنة، يعيش الجميع فيها بتساوٍ، وبهوية جامعة تسمو فوق كل الهويات الفرعية، بل هي مناهج لا تعكس التنوع المجتمعي العراقي.
تُدرَّس مادة التربية الإسلامية في المناهج التربوية العراقية التابعة للحكومة العراقية فقط، وهذه لا يدرسها غير المسلمين، في حين يجري تغييب بقية الديانات عن المناهج بُغية ترسيخ فكرة الدين الواحد "الحق" لدى التلامذة المسلمين، وأن لا يحصل التعرف إلى بقية الديانات.
لم ينته هذا النهج مع انتهاء حقبة البعث عام 2003، الذي أنتج ما عُرف في تسعينيات القرن الماضي بـ"الحملة الإيمانية"، بل ازدادت السطوة الأحادية، وراحت الحكومات الجديدة تُركز على إضافة المعلومات وتعديلها في مادة التربية الإسلامية دون أن تلتفت إلى الديانات الأخرى، وهذا في حد ذاته تغييب للآخر المختلف.
لعبت المناهج التربوية في العراق دورًا سلبيًّا في رسم الصور النمطية للمجتمعات غير الإسلامية، وراحت بعض الهيئات التدريسية تُعزز في عقول التلاميذ والطلبة أفكارًا ومعلومات مُضلّلة عن المسيحيين والأيزيديين والصابئة المندائيين، والديانات الأخرى التي لم تَلْقَ حتى مناسباتها ذكرًا في مدارسنا. فعلى سبيل المثال: يشرح بعض معلِّمي مادة التربية الإسلامية مفهوم "الإسلام هو الدين الحق"، على نحو إقصائي.
مثالٌ آخر على ذلك، قول بعض المدرِّسين للتلاميذ والطلبة: إن "الذي لا يلتزم بالدين الإسلامي، سيكون مصيره النار". كل هذا الترهيب وتشويه صورة الآخر، يدخل ضمن إطار "الإلغاء" الذي سيخلق جيلًا من "مُكفِّري" الديانات الأخرى.
ومع الحديث في عراق ما بعد 2003 بأهمية الدولة الجامعة والحاضنة لكل العراقيين، إلا أنها لم تختلف في ما يخص المناهج التربوية المتعلقة بالديانات عمَّا كان يفعله نظام صدام حسين، ولم تُغير شيئًا. فالديانة الوحيدة التي تُدرَّس في تلك المناهج هي الإسلامية فقط.
اِستمراريةٌ غير إيجابيّة أبدًا تلك التي اتخذتها الحكومات العراقية بعد عام 2003، للإبقاء على مادة التربية الإسلامية وحيدة بين المناهج التربوية الأخرى، دون استحداث مناهج لبقية الديانات، أو جَمْعها في مادة واحدة.
تحتاج المناهج التربوية العراقية إلى مادة تتحدث بمشتركات المكونات العراقية. ومع أن تعديل المناهج لن يكون سهلًا، والحديث بمادة جامعة فيها معايير المواطنة والتنوع لن يلقى ترحيبًا من تُجار الحروب والتفرقة في العراق، إلا أن البدء بمحاولات لدراسة المواد الإسلامية والاجتماعية، وتحديد المصطلحات والمفاهيم والمعلومات التي تضمَّنَتْها، وكيف أن بعضها يُسهم في تفكيك المجتمع لا جمعه، ستكون خطوات أولى ضمن آلاف الخطوات غير السهلة.
لا يُمكن للمقالات ولا الكُتب التي تتحدث بالمواطنة والتنوع، أن توصل فكرة إلى التلاميذ في أن التنوع والتعددية هما ثروة المجتمع وليس النفط، دون وجود أساسيات في المناهج التربوية، تضع حدًّا للنهج الأحادي المُتبع منذ عقود في المدارس العراقية.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.