الانتحار، ذلك الفعل الذي يُقْدِم عليه الإنسان في لحظة نُسمِّيها "ضَعفًا ويأسًا"، لا يمكن اعتباره فعلًا بُطوليًّا، مع أنَّ هناك تَعاطُفًا من بعضهم مع "أيقونات" المنتَحِرين/ات، في ساحات المواجهة بين المُواطِن والنظام.
لن أتحدَّث في هذه المقالة برأي الأديان في الانتحار وإجماعها على تحريمه، وإنَّما بِتَوليفة الفعل الثوري كعَمَل مُقاوَمة، واقترانها ببعض حالات الانتحار الجديرة بالتأمل. ما يُهمُّنا هو التذكير بأن الانتحار عُرِف قديمًا وفي جميع الثقافات. فالثَّقافات هي الوُصْلة التي تَجمع البشرية، وليس العِرْق ولا المناخ هُمَا السبب.
سأتكلَّم عن غيمة الانتحار في سماء المنطقة العربية تحديدًا. فحين أقْدَم الشابُّ التونسي محمد البوعزيزي منتصف كانون الأول/ديسمبر 2010، على إضرام النار في جسده، احتجاجًا على مُصادرة شرطة البلدية لِعرَبة الخضار التي كان يتكسَّب بها؛ انتشرَت نيران قضيَّته في مختلف الجهات في تونس، لتتحول إلى بركان غضبٍ في وجه الدِّيكتاتورية.
انتحارُ البوعزيزي تَحوَّل من فعلٍ تراجيديّ إلى "عمَلٍ بُطوليّ"، لأنه كان الشرارة التي ألهَبَت الثورة. فالانتحار هنا ليس فعلًا ينطوي –مِن منظور الكثيرين- على ضَعْف، بل على مقاومة. هكذا، حلَّلْنا تلك الواقعة آنذاك. البوعزيزي ما زال أيقونة تونس، لكن اللافت أن ظاهرة الانتحار حرْقًا تَكرَّرَت بعد وفاته. ففي الأشهر الستة الأولى من عام 2019، سجَّلَت تونس 146 حالة انتحار، نِسبةُ الرجال فيها 70٪، والنساء 30٪، وأكثَرُ المنتحرين/ات كانت أعمارهم بين 26 و35 سنة، بحسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وبحسب المنتدى أيضًا، تَكمن الأسباب في: عدم الاستقرار المِهنيِّ، والبطالة، والمشاكل الأُسَرية، والعنف الأُسَريّ. واللافت أنَّ مِن بين المنتحرين/ات في تونس عام 2018، 15 طفلًا (بحسب المَرصد الاجتماعي التونسي).
اليوم، ونحن نُحْيِي ذكرى اندلاع الربيع العربي، ونُراقب ثَورتَي لبنان والعراق، أجِدُ أنَّ مِن واجبنا التنبيه إلى عدم تمجيد الانتحار، لا سيَّما في غِمار الحماسة والاندفاع وتَصاعُد حُمَم بركان الغضب الشعبي. وأيضًا فلْنَفْصِل بين الفعل الثوري والإقدام على الانتحار؛ إذ الثورة حركة تَحرُّر من الظلم، وهي مَسارُ مقاوَمةٍ من أجل البقاء على الحياة بكرامة وعزَّة. فلا يليق بالثورة الانتحار. أمَّا إطفاءُ نار الغضب الفردي أو الشعبي، فلا يكُون بسكب البنزين على أجسام كُسرَت أرواحها؛ إذ كلُّ روحٍ "محترقةٍ" تمضي، هي انهزام جماعيٌّ للإنسانية، ودليلُ فشلِ البشر في منع مخلوق مِن تَجاوُز انكساراته. وكلُّ نفْسٍ تُغادر الحياة باختيارها، هي شمعة تنطفئ، وتزيد الكون حُلْكَة وسَوادًا وقَتامة.
لماذا نَلطِم عند فقدان عزيز، وفي الوقت عينه نُعلي فِعل الانتحار وكأنه قيمة تُعادل الخلود، أو كأنه خلاص للبشرية، أو "مكافأة" على صمود الشخص أمام نكبات الحياة؟!
في تونس، وبعد مرور 9 سنوات على الثورة، ينتحر عاطِلون من العمل بإضرام النار في أجسادهم، وينتحر آباء أو أمهات حين تتقطَّع بهم السُّبل ويجدون أنفسهم غير قادرين على إعالة أُسَرِهِم، وينتحر أطفال خوفًا من عقاب ذَوِيهِم لأن نتائجهم المدرسية كانت دون المطلوب. وفي المَغرب، ينتحر عاطلون أيضًا إمَّا حرقًا أو بأشكال أخرى. وفي الكويت، شاهدنا على الأقلِّ حالتَي انتحار حرْقًا لكُوَيتِيَّين من فئة البِدُون (دون جنسية). ودُوَليًّا، هناك 800 ألف حالة انتحار سنويًّا، بحسب منظمة الصحة العالمية.
لماذا نحتفي بالحياة عند سقوط نظام، أو عند كلِّ انتصارٍ شخصيّ على مَكِيدة أو مؤامرة، ثم نُعْلي في الآن نفسه تراجيديا الموت طَوعًا (انتحارًا)، وكأنها مُكمِّل لهذا النضال من أجل الحياة؟
تلك الثقوب في الأرواح المنكسرة، لا يَسدّها الانتحار. وأجِدُ أنه من غير المقبول انزلاق بعض وسائل الإعلام نحو تمجيد الانتحار كفِعلٍ بُطوليّ. ففي تموز/يوليو الماضي، حذفَت شبكة "نتفليكس" مَشهدًا من مسلسل "13 Reasons Why" لأنَّ خُبَراءَ في عِلم النفس ومُربِّين، رأوا فيه تمجيدًا للانتحار.
معالجة اليأس لا تكون بتمجيد الانتحار، ولا بالتلويح بتَنَكة البنزين وعُود الثقاب. فقبْل أسابيع، في طابور شركة الكهرباء في تونس، صرَخ تونسيٌّ بيأس: "نحرق روحي" (أيْ هل أحرق نفسي؟). جُملتُه تلك، كانت احتجاجًا على الارتفاع المُشِطِّ في قيمة فاتورة الكهرباء، التي عجز عن دفعها. جُملته تلك مرَّت بسلام، وكأنَّه يتكلَّم عن وُرود وزنابق. لقد كان مُرَوِّعًا تَعوُّدُ الناس سماعَ التهديدات بالانتحار حرقًا.
إنَّ الثَّورة بُطولَة، هدَفُها العيش بكرامة. لكن، لا بُطولة في الانتحار، مَهْما بلَغ طغيان الأنظمة. عِيشُوا واقفزوا فوق الانكسارات الشخصية والمِهنيَّة، وقاوِمُوا دون انتحار.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.