اِقترحتُ في كتابي "نهاية التنوع في العراق"، خطةً لإنقاذ التنوع، تَقُوم على تنمية الوعي بأهمية بناء اقتصاد قائم على التنوع الديني والثقافي، كبديل لاقتصاد الرَّيع النِّفطي. في سياق ذلك، لا يَقتصر الاستثمار في اقتصاد التنوع الديني، على توظيف التاريخ الغنيِّ للدِّيانتَين الإسلامية والمسيحية، بل يشمل أيضًا الديانة اليهودية. فقد احتوى العراق على المَركز الرُّوحي لليهود قرابة الألف عام، وكان رأسُ الجالوت البابلي هو المَرجع الأكبر ليهود العالم، وفيه نشأت أُولى الأكاديميّات اليهودية وأهمُّها، وفيها العديد من الأضرحة المقدَّسة لليهود. ويُمْكن تخيُّل مقدار الدَّخْل الدائم، الذي يَدِرُّه تنظيم برامج زيارات من كافة أنحاء العالم لهذه المَزارات، في سياق تنويع مصادر الدَّخل، وبناء اقتصاد بديل يقوم على السِّياحة الدينية والثقافية.
في رمضان الماضي، شاركتُ في تنظيم رحلة إلى كنيسة "كوخي" التاريخية في بغداد، وكانت قد شُيِّدَت انطلاقًا من موقع يشبه "كوخا" في القرن الأول للميلاد. وهي كنيسة عظيمة تَضمُّ رُفات 24 بطريركًا، أصبحت المقرَّ البطريركي لكنيسة المشرق. ومن تلك البقعة النائية، انتشرت المسيحية لتصل إلى الصين والهند. وحينما لمستُ ترحيب السُّكان المسلمين من عشيرة الجبور، بالزُّوَّار المسيحيين للكنيسة، التي تقع أطلالها ضمن بساتينهم، فكَّرتُ في أهمية إحياء هذا البُعد، لمدِّ الجسور بين المجتمعات العراقية المختلفة، والاستثمار فيما يَعُود به ذلك من فوائد اقتصادية أكيدة، على سكان هذه المناطق المهمَّشة والمعزولة بفِعل الحرب، عبْر توفير فُرص عمل لسكَّانها، والتخلص من صور العنف والنزاع والانقسام في الذاكرة، فضلًا عن إظهار صورة إيجابية عن التعايش الإسلامي-المسيحي، وإعادة بناء الثقة بين السكان. أعتقد أن هذا النوع من الاستثمار سيكون عامل وَحْدة وقوة، في مقابل سياسات الانقسام.
على صعيد ذي صلة، وفي سياق الإسلام السُّنِّي، تقع رموز للاعتدال الفقهي والصوفي في بغداد. فيُعدُّ مَشهد الإمام أبي حنيفة النعمان، أحد أهمِّ المساجد والمدارس التاريخية في العالم العربي، ويضمُّ مدرسة كبيرة تُعدُّ واحدة من أقدم الجامعات على مستوى العالم العربي، حيث سبقتها جامعة القرويِّين في المغرب (وهي تابعة لجامع القرويين الذي بُنِي في عام 859م)، والجامع الأزهر في مصر الذي تَأسَّس في عام 972م. وفي جانب الرصافة من بغداد تُوجد الحَضْرة القادرية، وهي التسمية التي تُطلق على ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، أبرزِ المراكز العالمية للتصوف، والذي يقصده زوَّار من كافة أرجاء العالم، ويُعدُّ إضافةً لا غنى عنها، لاقتصاد التنوع القائم على السياحة الدينية.
يشكِّل وجود العديد من المرجعيات الروحية لأديان مختلفة، أبرزَ مصادر القوة الناعمة للبلاد. ففضلًا عن وجود آيات الله، ومنهم المرجع الأعلى لشيعة العالم في النجف، ومَراجع كبار آخرون في كربلاء، فإن هناك مرجعيات روحية لأديان عديدة، مثل المرجِعيّة العالمية لطائفة الصابئة المندائيِّين، والمرجِعيّة العالمية للأيزيديِّين، ومرجعية الكلدان الكاثوليك في العالم، ومرجعية كنيسة المشرق الأشورية، إضافةً إلى مرجعيات طوائف إسلامية، مثل مرجعية الطائفة الشيخيّة في البصرة. وهناك أقلِّيّات لا يوجد مثيل لها في بلدان أخرى مثل الكاكائيِّين في شمال البلاد، والشبك الذين يُعدُّون أقلِّيّة إثنيَّة تستقر في منطقة سهل نينوى، وتتميز بتراث عِرفانيٍّ مميّز من التصوف.
في التاريخ المعاصر، يُعدُّ العراق مُنطلَقًا لأقلِّيّات دينية حديثة، مثل "البهائية" التي تُعدُّ بغداد منطلَقها الأول. وتقع أيضًا في بغداد أهمُّ المراكز المقدَّسة للبهائيِّين، "البيت" الذي سكنه بهاء الله في جانب الكرخ، بعد نفيِهِ من بلاد فارس القاجارية في نهاية القرن التاسع عشر، والذي يُعدُّ مَقصد حجٍّ لستة ملايين بهائيٍّ في العالم حاليًّا. ثم إنّ أديانًا قديمة قد عادت للظهور بعد اختفائها قرونًا، مثل الزرادشتية التي عادت للانبعاث مجدَّدًا في كوردستان العراق، وافتُتح مَعبد لها في محافظة السليمانية. وتضمُّ بغداد أخيرًا، موقعًا مقدَّسًا لنبيِّ الديانة السِّيخيّة، والتي يتنشر أتْباعها في الهند. وإنْ جرى الاهتمام به كما ينبغي، يُمْكن أن يصبح مَقصدًا لحجِّ الملايين من السِّيخ في الهند وخارجها.
لذا، أعتقد أن تطوير رؤية اقتصادية في إطار مواطَنة حاضنة للتنوع الثقافي، تتضمن عَدَّ التنوع ثروةَ البلاد الدائمة، ووُجوبَ حمايته كرأس مال حضاري لا يَنضب؛ هو أمر يجب الدفاع عنه، لا سيما وأن النِّفط جلب الاستبداد إلى العراق، والمزيد من الانقسام والفساد.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.