كثيرًا ما يرِدُ السؤال الآتي على ألسنة الكبار والصغار: "لماذا الشر؟ ولماذا يسمح الله بوجوده؟". وأحيانا يُصاغ السؤال بطريقة تُشكّك في قدرة الله وحكمته؛ فيُعتبر وجود الشرّ دليلًا على عجز الخالق، وعبثية العالم! فالشرُّ خُرم في النظام، بل هو الفوضى التي تُربك الأخلاق والقيم. لا يمكن تجاهل هذا السؤال الحائر الغائر في النفس الإنسانية، الذي صاحبَها طوال تاريخها، ولا يزال يُطرح بإلحاح، خاصةً عندما تحتدّ الأزمات وتختلط الأمور.
لن أستسهل الإجابة. فأمام ألم الأبرياء، خاصةً الأطفال، الصمتُ أجدى من افتعال إجابات متسرّعة، قد تتحوّل إلى استخفاف يصبُّ الزيت على النار. تقديم العزاء مهمة صعبة في كلّ الأحوال. وقد تكون اللمسة الحانية أجدى من الكلمات والمواعظ، ولكن اللاهوتي لا ينفكّ أن يكون "متكلّمًا"، سعيًا لمعرفة الحقّ بلغة الإنسان.
يَطرح موضوعُ الشرّ تحدِّيًا خطيرًا للأديان التوحيدية؛ لأنه يمسّ عقيدة التوحيد نفسها، في حين لا تُطرح القضية بالحدَّة نفسها في الأديان التعددية كالهندوسية، حيث تُوزَّع أدوار الخير والشر على آلهة مختلفة، بعضها يبني والآخر يهدم. والشيء نفسه بالنسبة إلى الأديان الثنوية كالزرادشتية، التي تؤمن بوجود إله للخير وآخر للشر. فإله الخير يبقى منزَّهًا عن الشر، الذي يمثّله الطرف النقيض. المشكلة تُطرح ضمن السياق التوحيدي: كيف يَسمح الرحمن بالشر، وهو الذي يأمر بالعدل، ولا يحدث شيء خارج إرادته؟ وإذا كان "الله محبة"، فكيف تسمح المحبة بالشر؟
الجواب الذي يقنعني أكثر هو: إن الشر يمثّل الثمن الباهظ، الذي تدفعه الإنسانية مقابل الحرية. فلولا الحرية لمَا كان هنالك شر. لقد سمح الله بالشر لأنه أراد لنا الحرية. بل نحن أحرار حتى في قبول الحرية أو رفضها. والحرية تعني إمكانية الشر والعصيان والتمرّد والقتل والتعذيب، وكلّ الشرور التي تخطر ولا تخطر على بالنا. ولكن الحرية تعني في الوقت ذاته إمكانية الترقي الإنساني بتحقيق إرادة الله الأخلاقية، التي تَكتسب صفتها الأخلاقية من الحرية. الحرية تعني إمكانية التكليف والتشريف والتكريم، الذي يجعل الإنسان إنسانًا وخليفةً لله في الأرض. هذه الخلافة لا تتحقّق إلا من خلال إرادة الإنسان الحرّ، الذي يختار الخير عن قناعة ومسؤولية، رغم الصعوبات والمغريات. فطريق الخير صاعدة، والاستمرار فيها يتطلب مكابدة ومجاهدة؛ أما التدحرج إلى قاع الشر فهو سهل.
إنَّ عالمنا هو عالم الإمكان، وهو إمكان يستمدُّ وجوده من "واجب الوجود"، وهو الله تعالى. والإمكان يعني الاحتمال وتعدّد الأشكال والاختيارات والصور والألوان. يقع هذا التعدّد في صميم تركيبة الكون، بكل التناقضات التي يحملها. وبهذه الطريقة لا يَظهر الوجود من كمونه فقط، ولكن تتحدّد معاني الكلمات والأسماء: {وعلَّم آدم الأَسماءَ كُلَّها} [البقرة: 31]. فالشر تعريف بالسلب للخير، والعكس، وبينهما أطياف تمتزج فيها المعاني والألوان. والإنسان خير مثال على تعقيد التركيبة، التي تجمع الخير والشر على درجات متفاوتة.
في موقف التحدّي الذي عبّر عنه إبليس: {قال ربِّ بما أغويتَنِي لأزيّننَّ لهم في الأرضِ ولأغوينَّهُم أجمعينَ، إلَّا عبادكَ منهمُ المُخلصينَ، قال هٰذا صراطٌ عليَّ مُستقيمٌ، إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهِم سُلطانٌ إلَّا من اتَّبعكَ منَ الغاوينَ} [الحِجْر: 39-42]، نجد أمرين هامَّين: الأول: أن الله سمح بغواية إبليس كجزء من حقيقة الوجود، ولكنها ليست قاهرة لإرادة الإنسان واختياره. الثاني: أن الله تعالى لم يقمع إبليس في شره، ولو أراد مَحْقه لفعل. فأفسح له مجالًا من "الحرية" للغواية، كما أفسح للإنسان مجالًا من "الحرية" للقبول أو الرفض. فمن دون الحرية السلبية (حرية الكفر)، لا معنى للحرية الإيجابية (حرية الإيمان)، حرية "عباد الله المخلصين" الذين كان في إمكانهم أن يقَعُوا، ولم يقعوا حريةً واختيارًا.
تعترض الإنسانَ مشكلتان أساسيتان: أولاهما أن يلتبس عليه الخير والشر، فيرى الخير شرًّا، وبالعكس، فتسقط الأخلاق. وثانيتهما أن يَقْبل الشرَّ "تديُّنًا"، باعتباره مرادًا إلهيًّا. وقد غاب عنه أن الله لا يريد إلَّا خير الإنسان. فإرادة الله الأخلاقية كلّها رحمة ومحبة وعدل. فالشر جزء من الخلق من حيث الوجود، وهو وجود مراد من الله على مستوى التكوين، ولكن الله يطلب منا أخلاقيًّا، أن نرفض الشر ونقاومه بكل ما أوتينا من قوة. وهذه القوة نفسها منحنا إياها الله تعالى، علمًا أنّه: {لا يكلّف اللَّه نَفسًا إلَّا وُسْعها} [البقرة: 286].
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.