نجح العلم الحديث في معالجة كثير من الأمراض القاتلة، التي كانت تحصد أرواح الناس حتى زمن قريب، كما هو الحال مع مرض الجُدَرِيّ الذي تفشَّى في الإمبراطورية الرومانية نهاية القرن الثاني للميلاد، وقَتل فيها ما بين 3.5 إلى 7 ملايين شخص، وقضَى في أميركا الشمالية على ما يُقارب 3 ملايين شخص من السكان الأصليِّين لإمبراطورية الأزْتِك، بَعْدَما وصلها الوباء مع الغُزاة الإسبان في عام 1519. وفي القرن العشرين، قَتل الجُدَريّ من 300 إلى 500 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، ثم استطاع العِلمُ في نهاية المطاف أن يقضي على الجُدَري عام 1977.
أمّا مرضُ الطاعون، فقد أدَّى إلى موت ما لا يقلُّ عن ثُلث سكَّان القارّة الأوروبية، بين عامي 1347 و1352. ولا ننسى ما فعله الطاعون في بداية انتشار الخلافة الإسلامية في بلاد الشام، حيث قَتل "طاعونُ عَمَواس" في السنة الثامنة عشر للهجرة، قرابة خمسة وعشرين ألف إنسان، بينهم كثير من صحابة الرسول.
يَصعب على الثقافات الدينية القديمة أن تُدرِك استقلاليةَ القوانين والسُّنن الطبيعية، وعدمَ خضوعها لمعتقدات الناس وآرائهم. فالناس يمرضون ويتألَّمون مهْما كانت معتقداتهم: {إن تكونوا تَأْلَمُونَ فإِنَّهم يَأْلَمُونَ كما تألمون} [النساء: 104]. وكمِثال على تأثير التفكير الأسطوري في العقل العربي، نستحضر اعتقاد بعض الصحابة، الذين قالوا بأنَّ كُسوف الشمس الذي حدث في زمنهم، كان بسبب وفاة إبراهيم ابن النبي محمّد (ص). لكنَّ النبي لم يَقْبل ذلك التفكير، وانتقده قائلًا: "إنَّ الشمس والقمر آيَتان من آيات الله، لا ينكسفان لِمَوت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتُموهما فادْعُوا الله وصَلُّوا حتى تنكشف" (صحيح مسلم).
مِن هنا، يمْكن القول بوجود تناسُب بين الخطاب الديني الإعجازي والواقع الثقافي للمجتمعات القديمة، التي كثيرًا ما تستمرئ الخوارق والعجائب، لكنَّ الثقافة البشرية المعاصرة اليوم، أصبحت في حاجة إلى خطاب ديني أكثر عُمقًا، يحثُّ على البحث العلميّ، ويُسهم في إيجاد حلول علميّة لمشكلاتنا المعاصرة.
لا بد للخطاب الديني أن يستوعب المشكلات الكبرى التي تُواجه البشرية، وأن يبتعد عن منطق التهويل والتَّشفِّي والشَّماتة. فالخطاب الذي يقُوم على تضخيم المشكلات وربْطِها بتفسيرات غيبيَّة، يُعبِّر عن أزمة نفسية ومعرفية. وتتجلَّى هذه الأزمة في استغلال خوف الناس من انتشار الأمراض والكوارث، بهدف تكريس مفاهيم دينية مغلوطة، لا سيّما وأنَّ الشعور بخطورة المرض وقدرته على قتل الإنسان، يجعل كثيرًا من النفوس مهيَّأةً لقبول أيِّ تعليل، مهْما كان ساذجًا. فاعتقاد أنَّ انتشار الأمراض يعُود إلى أسباب غيبيَّة، مِن شأنه أن يعطِّل التفكير السببي، وينتهي إلى التشكيك في الدين، لا سيَّما عندما ينجح بعض العلماء في اكتشاف الأسباب الحقيقية للمرض.
لم تَظهر الأمراض أو تنتشر لأسباب دينية؛ إذ الناس يَمرضون ويتألَّمون، وتَحلُّ بهم المحن والمصائب مهْما كانت معتقداتهم. فالفيروسات لا تسأل أحدًا عن دينه أو طائفته، عندما تخترق جسده. وفي ذلك يقول النبي: "إنّي أوعك كما يُوعَكُ رجلان منكم" (البخاري). وكان النبي الكريم يحثُّ على التداوي، فيقول:" تَدَاوَوا عبادَ اللَّه، فإِنَّ اللَّه لمْ يضع داءً إلَّا وضعَ معَهُ شفاءً إلَّا الهَرَمَ" (رواه ابن ماجة). أيضًا كَانَ الرسول يأمر مَن كَانَتْ بِهِ عِلَّة، بأن يأتي طبيبَ العرب "الحارث بن كَلَدَة الثَّقَفي"، والذي لم يكن مسلمًا. ومِن التوجيهات الأساسية التي أمر بها الرسول بخصوص الأمراض المُعْدية، قوله: "إذا سمعتُم بالطَّاعُونِ بأَرضٍ فلا تدْخلُوهَا، وإِذا وقع بأرضٍ وأنتم بها، فلَا تخرُجُوا منهَا" (البخاري). وكان يحثُّ على الوقاية والابتعاد عن أسباب المرض: "لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ" (البخاري). فيؤسِّس هذا الحديث النبوي لفكرة الحَجْر الصِّحِّي، والوقاية من انتشار المرض بين الناس.
يَحضُر الدِّين بقوَّة في تَقْوية الأمل والرجاء في نفوس المَرضى والمتألِّمين/ات، ويُعِينهم على الصبر وتَحمُّل الآلام. أيضًا يُرشد الدِّينُ الإنسانَ، إلى التواضع والكفِّ عن الاستعلاء والغرور. ولكنَّ هذا الدَّور المهمّ للدين، لا يجعل الدِّين بديلًا للطِّبّ بحال من الأحوال.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.