تناقلَت وكالات الأنباء منذ أسبوع، خبر قرار لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، اعتبارَ تشريع فرنسا لحظر ارتداء النقاب انتهاكًا لحقوق الإنسان. لذا، طالبَتها بمراجعة القانون الذي يمسُّ الحريةَ المدنية للمواطنات الفرنسيات المسلمات. وفي الكثير من النقاشات الفكرية داخل مواقع التواصل الاجتماعي، اعتبر بعضهم ما حدث انتصارًا بيِّنًا للإسلام. وأيضًا عاد النقاش الفقهي حول قضايا السُّفور، واللباس الشرعي للمرأة المسلمة، والحُكم الشرعي للنقاب، وعورة المرأة... ونحو ذلك.
لكن، ما أثار انتباهي، مفارقةٌ كبرى تنكشَّف عندما تُثار مثل هذه القضايا. وهي أن المَعنِيَّة الأولى بالأمر، أي المرأة، تكاد تكون غائبة، مقارَنةً بحضور الخطاب الذكوري، حول هذه النقاشات التي تتعلق بكيانها، وبجسدها ودلالاته، وبوضعها في المجتمع والفضاء العامّ.
لماذا أصبحت النساء مجرد ذريعة مغيَّبة في النقاش حول المرأة، في حين يجري استعمال جسد المرأة ودلالاته؛ إمَّا لفرض نوع من السلطة الاجتماعية أو الدينية، وإمَّا لعرضها كسلعة للاستهلاك؟ وألا يمكن للمرأة أن تختار لنفسها طريقًا ثالثًا بين التَّشْيِيء الديني والتَّشييء الاستهلاكي المادي، أي أن تكون شيئًا آخر غير جسد يُستر أو يُعرَّى، بل مخلوقًا مكرَّمًا ومفكِّرًا؟! وأتساءل أيضًا: لماذا لم يكن فِقه النساء من صياغة النساء أنفسهن؟ ولماذا لم ينشأ فِقه نسائي بل فِكر ديني نِسْوِيٌّ، حيث المرأة ليست فقط موضوعًا للفكر الديني أو الفقه، بل صانعة للفكر الديني؟
قد يكون تأنيث الفكر الديني طريقًا إلى الخروج من مأزق الصور السلبية حول المرأة، والتي يزخر بها الفقه الإسلامي الكلاسيكي، معتمِدًا على بعض الأحاديث أو التفسيرات، التي استطاعت أن تتغلغل فيه بفعل التفاعل مع حضارات أخرى، مثل: تمثيل المرأة بالضلع الأعوج، واعتبار المرأة مصدرًا للخطيئة والإغواء، وشيوع الحديث النبوي: "ناقصات عقل ودين"، أو حديث: "لن يُفلح قوم وَلَّوْا أمرهم امرأة"، وذلك في عالَمٍ تُسيِّر فيه بعض النساء دُوَلًا، أحسن بكثير مما يفعل الحُكَّام في العالم الإسلامي.
في إمكان النساء المسلمات صياغة التفسير النسائي للقرآن، من أجل تحرير المرأة من داخل الإسلام نفسه، القرآن الذي يركِّز على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والكرامة. يمكنهنَّ رفض التعدُّد غير المقيَّد في الزواج، والذي يَمنح الرجل حرية مطلقة، في حين أن النص القرآني يَربط التعدد بالعدل "غير الممكن" في كلِّ الأحوال. في الحقيقة، ليست الحضارة المادية فقط مََن تُحوِّل المرأة إلى سلعة، بل الفقه أيضًا عندما يجعلها مجرَّد متاع، يمكن للرجل أن يزيد عليه متاعًا آخر لمتعته. وفي إمكان النساء نقد الأحكام "الجنسانية" التي جعلتها رهينة بالثقافة الذكورية، حيث سُخِّرت لحاجات الذَّكر ورغباته، كما تُسخَّر الرعايا لرغبات الحاكم.
قد يسأل سائل: كيف يمكن أن نسمح للنساء باقتراح تأويلهنَّ للدين، وهو نصوص مُطْلَقة وقَطعيّة؟ نجيب: إذا كانت النصوص مقدَّسة، فإن تأويلها ليس مقدَّسًا، ولا يمكن أن يكون. ولا ننسى أن النصوص الدينية تنتمي إلى التاريخ، وهي جزء منه. وكما هو الحال في الديانات التوحيدية الثلاث، فقد كانت هناك دومًا نزعات لإسقاط ثقافة الهيمنة الذكورية، من خلال تفسير النصوص.
لكن الإسلام النسائي –إنْ صحَّ التعبير- لا يعني فقط دفاعَ المرأة عن "مصالحها"، بل إمكانيةَ إجراء قراءة أخرى للنصوص الدينية من أجل أنسنة عميقة للدين، كي لا تُهدر إنسانية الإنسان بحجَّة نصوص مقدَّسة لا يمكن مناقشتها، لأن الإنسان هو موضوع القُدسيّة الحقيقي. يمكن أن نستشهد هنا بالسيدة عائشة عندما رفضت أن تُساوَى المرأة بـ"الكلاب والحمير". ففي الحديث الصحيح: "عن عائشة أنَّهُ ذُكر عندهَا مَا يقطَعُ الصَّلاةَ، فقالُوا يقطعُهَا الكَلبُ والحِمَارُ وَالمَرأَةُ، قَالت: لقد جعلتُمونَا كلابًا، لقد رأَيتُ النَّبيَّ يصلِّي وإِنِّي لبينَهُ وبَينَ القِبلَةِ وأنا مُضطجِعَةٌ على السَّريرِ، فتكُونُ لِي الحَاجَةُ فأَكرَهُ أَن أستَقبِلَهُ، فأَنسلُّ انسِلالاً". بقولها: "جعلتمونا"، ترفض عائشة إهدار كرامة المرأة بِاسم الدين، أو إقصائها من فِقه هي مَوضوعُه، حتى ولو تطلَّب الأمر إنكار حديث يُنسب إلى الرسول.
يقول الله تعالى: {يَا أيُّها النَّاسُ اتَّقوا ربَّكمُ الَّذي خلقكُم من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منهَا زوجهَا} [النساء: 1]. يمكنُنا أن نأمل أنه قد يأتي يوم تكون فيه المرأة، تلك النفس البشرية الحاملة –كما الرجل- للروح الإلهية، قادرة على بناء إسلام أكثر إنسانية، من هذا الذي يصنعه الرجال منذ أربعة عشر قرنًا، ليبرِّروا به أحيانًا أشنع أعمالهم. والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.