في الأسبوع الماضي، كنتُ أنتظر دوري في صالون حلَّاق الحيّ. انخَرَط مجموعة شباب في نقاش عادي، حول المباراة التي ستجمع المنتخب الوطني المغربي لكرة القدم بمنتخب إيران. فجأة زعزع سكينتي شابّ تبدو عليه كل آثار التدين، وهو يقول: "أدعو الله أن ينصرنا على الشيعة الرَّوَافض". مقالة حزَّت في نفسي كما لامُبالاة الحضور أمام هذه الكلمات القاتلة. لفَتُّ انتباهَه بلين وهدوء، إلى أن كَوننا مسلمين يمنعنا من التنابز بالألقاب، وأن شهر رمضان هو شهر الرحمة والغفران. كان رد فعله متشنِّجًا، وطفِق مسترسلًا يذكر كل نقاط الخلاف بيننا نحن أهل السنة وبين الشيعة، لِكونهم ينقضون كل أركان الإسلام، واستنجد بشيخ الإسلام (ابن تيمية) الذي قال: إن خطرهم أشدُّ وأقسَى من خطر اليهود! لم يَدُم نقاشنا طويلًا، حيث انسحب مُحاوِرِي متأفِّفًا، لا يكاد يكظم غيظه.
بالنسبة إليَّ، كان هذا حادثًا معبِّرًا يتكرر كل يوم في مجتمعاتنا. وما أثار انتباهي هو الانتقال من الهوية الوطنية إلى الهوية الدينية، من خلال تقسيم ثُنائي: "نحن" (الخير)، و"هُم" (الشر). جعلني هذا الحادث أفكر في العلاقة بين الهوية، والفكر العنيف الذي يتغذى بعقيدة أساسها وَهْمُ الحقيقة المطلقة. لا شك أن الفكر العنيف هو نتيجة للهوية الأحادية، التي تصنع ولاءً منعزلًا ومتمركزًا، حول ذاتٍ غالبًا ما تكون متخيَّلة. وفي كتابه (الهوية والعنف.. وَهْم القدر)، يتساءل "أمارتيا سين": "هل الجماعات تختار هويتها، أم تُفرض عليها فرضًا"؟
أعتقد أن المرجعية التاريخية أو الدينية، ليست المكون الوحيد للهوية. فالهوية متعددة؛ ما يعني الانتماء في الوقت نفسه إلى عدّة جماعات. ثم إنّ الهوية حركية دائمة، وليست انتماءً نهائيًّا؛ ما يمنحها القدرة على إدماج الآخر وقبول الاختلاف. يسمح هذا التعقيد بتأسيس هوية مشتركة وجامعة، داخل جماعة المواطنين أو الجماعة الإنسانية، هوية مركزية قد تُشكِّل مصدرَ إثراءٍ مستمرًّا، وحماية من أخطار الهويات القاتلة.
لا شك أن العالم العربي الإسلامي، يرزح تحت تأثير إشكالية سياسات الهوية: الولاءات العابرة للدول، والتقسيمات السياسية المبنيَّة على أساس الهويات الدينية، أو العرقية، أو حتى اللغوية. وأيضًا تتعرض دول بكمالها للتفكيك وإعادة الترتيب؛ بناءً على استغلال الانكسارات التي تُخلِّفها تناقضات الانتماءات الهوياتية. ولا نزال نبحث عن الهوية الجامعة، الضامنة للاستقرارَين السياسي والمدني.
في التراث الإسلامي، يمنح الفكر الصوفي نموذجًا فريدًا -لكنه لا يزال حبيس الهامش-، مِن هذه الهوية التي هي هوية جامعة، ألا وهي الهوية الإنسانية. وتقوم فلسفة التصوف بإحداث انزياح معرفي عميق، من خلال الانتقال من الهويات (الظاهرة)، والثانوية (المذهبية، والثقافية أو الإثنية)، إلى الهوية الجوهرية، الهوية الإنسانية، وذلك من أجل التأسيس للمشترك الإنساني.
تؤسس مركزية الإنسان لعقيدة الإنسان، الجدير بالتكريم والاحترام، الإنسان الحرام والمقدس، وأيضًا تسمح بتطوير تأويليَّات إيجابية تعترف بالاختلاف، وتمنحه -في كل مستوياته- معنًى إيجابيًّا. وتركز فلسفة التصوف على الانفتاح على الآخر، مع تأكيد خطر الانغلاق في الهويات الجماعية، التي تفصل الإنسان عن بُعده الكوني، وتجعله ضحية الجهل المقدس الذي يعبِّر عنه مُحيي الدين بن عربي:
لقد كنتُ قبل اليوم أُنكِرُ صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه دانِي
أدينُ بدِين الحُبّ أنَّى توجَّهَتْ ركائبُه، فالحبُّ ديني وإيمانِي
تتعدّد طرق البحث، لكن المبحوث عنه والمحبوب واحد، وهو الله. ولأن الله يحبنا جميعًا قبل أن نحبه؛ فإن حب الإنسان لله، لا يتحقق إلَّا من خلال حبِّه لِأخيه الإنسان. لذا، فإن الإدراك عن طريق الحب هو طريق للمعرفة، التي تسمح بالكشف عن الخير الكامن في كل الأديان.
لقد شكَّلَت جنازة مولانا "جلال الدين الرُّومي" في مدينة قونية سنة 1273م، حدثًا جسَّد مفهوم الهوية الإنسانية الجامعة، حيث حمَل نعشَه ممثِّلو خمس ديانات. كان فهمُه للدين كونيًّا، حتى أن النصارى قالوا: "لقد فهِمْنا عيسى من خلال مولانا"، وكان يعتبر نفسه مُواطنًا كونيًّا داخل المسكونية، وداخل هوية فوق الهويات:
"أيها المسلمون ما التدبير، وأنا نفسي لا أعرف نفسي؟!
فلا أنا مسيحي، ولا أنا يهودي، ولا أنا مجوسي، ولا أنا مسلم،
ولا أنا شرقي، ولا أنا غربي... لأنني أنا في الحقيقة من روح الروح الحبيب".
أما أنا، فأقول: اللهم كُن مَوطن أوطاننا، وعقيدة عقائدنا!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.