هل يوجد إله لهذا الكون أمْ لا؟ جرَتِ العادة بأنْ يوصَف مَن يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب بأنّه مؤمنٌ، ومَن يجيب عنه بالنفي بأنه كافر. إنَّ الإيمان وَفْق هذا المنظور هو الاعتراف بوجود الإله؛ أمَّا الكفر، فهو نقيض ذلك. ويتعلَّق مَصيرُ الإنسان الأُخروي، بالاعتراف بفكرة وجود الإله من عدمه. فالمُؤْمن له الجنة، والكافر له النار.
أريد أن أُسجِّل هنا اعتراضًا، على حصر مفهوم الإيمان في مُجرّد الاعتراف بوجود الإله من عدمه؛ إذ إنَّ مسألة الإيمان، لا بدّ أن تكُون أعمَقَ بكثير من مجرَّد الاعتراف بوجود إله. وقد جرَت العادة بأنْ يُعاجِل أحدُهم مُحاوِرَه بالاعتراض قائلًا: "إنَّ الاعتراف بوجود الإله، ضروريٌّ للإجابة عن سؤال: "مِن أين جاء الكون؟". أليس هذا هو سؤال الأسئلة، الذي لا جواب عنه دون الاعتراف بوجود خالق للكون؟".
نقف هنا أمام مشكلة توظيف الإيمان بوجود الله، من أجل اقتراح أجوبة عن أسئلة وُجوديَّة. ففي الماضي، وَظّف الإنسان فكرة الإله لفهم قضايا في الطبيعة، كالسؤال عن سبب المرض، أو سبب المطر، أو الزلازل، أو الخسوف والكسوف، أو غيرها من ظواهر الطبيعة. تَكمن مشكلة هذه النظرة التوظيفية للإله، في سُرعة فقدان مبرِّرات الإيمان، في موازاة تَطوُّر العلم وتقديمه شروحات مُقنعة وأجوبة شافية عن أسئلتنا الوجودية. فكأنَّ العلم نقيض للإيمان؛ كلَّما ازدادت كشوفاته، تضاءلتْ مكانة الإيمان. إلَّا أنَّ خطورة هذه الثُّنائية المانَويَّة، لا تَكمن فقط في جعل الإيمان نقيضًا للعلم، بل أيضًا في جعل الإلحاد مقابلًا للعلم. وهنا، تَظهر مشكلة توظيف الدين، إذ إنه يجعل من الإله مجرَّد مالِئٍ لفراغ، ريثما يتمُّ مَلْؤُهُ بالعلم أو بغيره.
إذن، لا بد من فهم الإيمان، بعيدًا عن كلِّ محاولة توظيفيّة له. لكنْ، ما ذلك المعنى العميق للإيمان بالله، والذي لا يجعل منه وظيفة، بل هدفًا في ذاته؟ لا يوجد إلَّا جواب واحد مُقنع عن هذا السؤال: إنها المحبة. ولا أقصد بالمحبة تلك الرومانسية بين العشيقَين، بل أقْصِد معناها العميق، المتمثِّل بإرادة الآخر إرادةً غيْر مشروطة. فالإيمان بالله تعبير عميق عن إرادةِ الإنسان القُربَ من الله، والصَّيرورة في حضرته وجلاله دون طلب عائد، ولا حتى طمَعًا في جنَّةٍ أو ثواب؛ ولا خوفًا من نارٍ أو عقابٍ. فالحبيب لا يريد سوى القرب من محبوبه، دون مصلحة يَرجوها، ولا اتِّقاء لشرٍّ يخافه، بل إنه يرفض كلَّ شكل من أشكال توظيف محبوبه. لقد خطَى الله الخطوة الأولى اتِّجاه الإنسان، مُعلِنًا بذلك حبَّه غيْر المشروط له: {يُحبُّهم ويُحبُّونه} [المائدة: ٥٤]. وحُبُّ الإنسان لله، يمثِّل جوابًا لحُبِّ الله له.
إنَّ علاقة الله بالإنسان باعتبارها علاقة محبَّة، تدعو هذا الإنسان إلى تحقيق محبة الله في حياته اليومية؛ حيث يصبح مُريدًا لأخيه الإنسان إرادةً غير مشروطة. فيُحبُّ أخاه في الإنسانية لا لهدف ولا لمصلحة، بل لمجرَّد إسعاده. ويصبح الحبُّ أو إسعاد الآخر، هدفًا في ذاته. فالإيمان بالله -على هذا المعنى- يصبح له معنىً عمليٌّ، أيْ أنّ المؤمن هو مَن كان يدًا للمحبة والرحمة، وكلَّما تحقَّقَت هاتانِ (المحبة والرحمة) على يد المؤمن، كان ذلك شهادة على رِفْعة إيمانه.
كم نحن في حاجة اليوم إلى تفعيل مفهوم الإيمان، ليكُون حياة نعيشها، وتشهد عليها ثمار الحبِّ والتراحم، التي زرَعْنا بُذورها في قلوبنا، ثم في علاقاتنا بِمَن حولنا! أمَّا اقتصار مسألة الإيمان على مجرَّد الاعتراف بوجود إله في السماء من عدمه، فهو تفريغ للإيمان من معانيه الساميّة وقِيَمه العملية في حياتنا اليومية. فيُصبح الإيمان مجرَّد ادِّعاء، أو مَقولة لا تقدِّم ولا تؤخِّر. ولا عجب إنْ زاوَجَ القرآن بين الإيمان والعمل الصالح، جاعلًا إيَّاهما وجْهَين لعُملة واحدة؛ إذ طالما تحدَّث القرآن بِـ"الذين آمنوا وعملوا الصالحات".
لو كان الإيمان مجرَّد الاعتراف بوجود إله، لَمَا زاوَج القرآن بينه وبين العمل الصالح. وإنْ كُنّا نتصوَّر أنَّ الله هو تَجلٍّ لمعاني الحب والرحمة، فكُلُّ مَن آمن بالحُبِّ ومَدَّ أيادي الرحمة لأخيه الإنسان، هو مُؤْمن بالله من حيث يدري أو لم يَدْرِ. والكافر هو مَن كفَر بأخيه الإنسان، فكرِهَه أو وظَّفه لمصالحه، جاعلًا منه شيئًا، بدلًا من كَونه هدفًا مكرمًا في ذاته، ولذاته.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.