بعيدًا عن المفهوم الشائع للاستشراق، والذي يَحصره في الدراسات التي يقوم بها باحثون غربيُّون في الإسلام، فإن الاستشراق يتناول كلَّ ما يتصل بالشرق من أديان وفلسفات ولغات وثقافات وآداب وفنون وتاريخ. والمجال المَعرفِيُّ للاستشراق واسع ومتعدِّد، تراكمَت فيه الجهود والخبرات، واختلفت فيه المناهج والاتِّجاهات.
هناك تداخُل كبير بين نشأة الاستشراق والمشاريع الاستعمارية الغربية، منذ حملة نابليون على مصر نهاية القرن الثامن عشر، وهو أحد الأسباب التي دفعت كثيرًا من الباحثين العرب، إلى الحكم على الاستشراق باعتباره صيغة إيديولوجيّة استعمارية، لا علاقة لها بالمعرفة الموضوعية.
يجب القول بأن النظر إلى الاستشراق باعتباره حالة ثابتة ومستقرّة، صنعَتها الدوائر الاستعمارية خصوصًا لتشويه الإسلام، أدَّى إلى حالة من الجهل بالمضامين المعرفيَّة للاستشراق، والخلط بين مدارسه واتِّجاهاته المختلفة. فاعتبار الاستشراق مجرَّدَ انسياق حتميّ وراء حِقد دفين على الإسلام، أو نتاجًا لرغبة خبيثة في تشكيك أتباعه وتقويض بنيانه، أضاع على العقل المُسلم فرصة التعرُّف إلى المناهج العلمية، وتطوُّر المعارف والدراسات الثقافية والأنثروبولوجية.
من مظاهر الخلل في كثير من دراساتنا العربية للاستشراق، التركيز المستمرُّ على نوايا المستشرقين ودوافعهم، أكثرَ من التركيز على مناقشة المضامين العلمية والتساؤلات الإشكالية التي أثاروها. وممّا يؤكد وجود دوافع مختلفة عند المستشرقين، دخولُ عددٍ منهم في الإسلام، أمثال: الفرنسي ميشو بللر، والسويسري يوهان بوركهارت (1784 – 1817(، والألماني فريتس كرنكوف (1872 - 1953)، والمجري عبد الكريم جرمانوس.
كثير من المشكلات التي تُعانيها كتابات المستشرقين حول الإسلام والمسلمين، نجدها في كتب كثير من المسلمين حول الأديان الأخرى، كالتحيُّز، والجهل باللغات الأخرى، والاعتماد على مصادر غير موثوقة.
إن عِلم الاستشراق مَثلُه كَمَثلِ أيِّ عِلم آخر، لم يولَد كاملًا؛ وإنما بدَا بصِيَغ بسيطة وساذجة، ثم راح يتقدَّم شيئًا فشيئًا. وكما هو شأن أيِّ مجال معرفيّ، فإن الاستشراق وُلد من مجموعة من التساؤلات الإشكالية، التي تَدفع الباحث إلى البحث عن حلول لمعالجتها، والتي كانت متركِّزة في الأساس حول العوامل الثقافية واللغوية، التي أسهمت في تشكيل الديانة المسيحية في المشرق، ثم توسَّعَت لتَشمل جميع الثقافات والمجتمعات الشرقيّة على وجه العموم.
بالإضافة إلى المنجزات المهمَّة، التي قام بها المستشرقون في جَمْع المخطوطات وحِفْظها وتحقيقها وترجمتها، وتأليف المعاجم والموسوعات، فإنه لا يُمكن الاستهانة بالأثر الكبير للمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون (ت 1962)، الذي أسهمت دراساته وأفكاره حول الإسلام، في إحداث تغيير نَوعيٍّ في نظرة الكنيسة الكاثوليكية تجاه الإسلام والمسلمين في المَجْمع الفاتيكاني الثاني (1965-1962). كذلك لا يُمكن الاستخفاف بالعمل الجبّار الذي قام به المستشرق جون فرانسوا شامبليون (ت 1832) في "عِلم المِصريَّات"، بِفكِّه طلاسم اللغة الهيروغليفية، من خلال مقارنته للنصوص التي كُتبت على "حَجَر رشيد".
لقد سبَق الغربيُّون المسلمين في ترجمة القرآن إلى لغاتهم بقرون طويلة، حيث قام الراهب الإنجليزي "روبرت الرتيني"، والراهب الألماني "هرمان"، بأول ترجمة للقرآن إلى اللغة اللاتينية عام 1143م، وكانت هذه الترجمة منطلَقًا للعديد من الترجمات بمختلف اللغات الأوروبّية، والإيطالية عام 1547م، ثم الألمانية عام 1616م، والفرنسية عام 1647م. ولم يَشرع المسلمون في ترجمة القرآن إلى اللغات الأوروبية إلّا في بدايات القرن العشرين!
لم تَظهر كثير من الأفكار المشوَّهة عن الإسلام نتيجةً للدراسات الاستشراقية؛ وإنما جاءت من بعض أجهزة الإعلام الغربية، التي لديها التأثير الأكبر في المجتمعات الغربية. فدراسات المستشرقين هي في أغلب الأحيان، موجَّهة إلى الطلاب والمهتمِّين بدراسة الإسلام.
يمكن لانتشار ترجمة القرآن وكُتب الحديث والتفسير بلغات أوروبية على أيدي مسلمين، أن يقلِّل من الأسباب الموضوعية لسوء الفهم تجاه الإسلام. وأيضًا يُسهم الانتشار الواسع للكتب الإسلامية على شبكة الإنترنت، في تسهيل الحصول على المعلومة الصحيحة حول الإسلام، وتغيير الصور الخاطئة.
في نهاية المطاف، يمكن القول بأن دراسة الإسلام أو أيِّ دين آخر، لا تقتصر على أتباعه. فالتراث الديني هو جزء من التراث الإنساني، ولا يحقُّ لأتباع دين مَنْعُ غيرهم من الإسهام في دراسته. ثم إنّ الصورة السائدة عن الأديان وأتباعها، يُنتجها في الأساس الأتباعُ أنفسهم، مَهْما كتَب أو بحث الباحثون في الشرق أو الغرب.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.