بِحُكم إقامتي في روما، وعملي في الجامعات البابوية، أتابع عن كَثَب أعمال البابا فرنسيس ونشاطاته. أجِدُ فيه البساطة والعمق، والإنسانية والروحانية، وهي صفات باعثةٌ على الأمل، في زمن بات يُنظر فيه إلى الأديان بكثير من الرِّيبة. أتابع باهتمام مواقف البابا التضامنية مع المسلمين؛ فالبابا يسير عكس التيار، في دفاعه المستمر عن المهاجرين واللاجئين -ومعظمُهم من المسلمين-، وفي إدانته الشُجاعةَ لتجّار الأسلحة والحروب، واقتصادَي الإقصاء والإسراف، واجتماعَ التفرقة العنصرية.
يقول البابا في أوّل إرشاد رسولي له (فرحة الإنجيل) سنة 2013، بعد أشهر قليلة من انتخابه: "إزاء أحداث الأصولية العنيفة التي تُقْلقنا، يجب على المودّة نحو المؤمنين المسلمين الحقيقيين أن تَحملنا على تحاشي التعميمات البغيضة، لأن الإسلام الحقيقي والتفسير المناسب للقرآن يناهضان كلّ عنف" (عدد 253). الكلام هنا عن "المسلمين الحقيقيين" و"الإسلام الحقيقي"، أذهل بعضَ الذين اعتبروا كلام البابا مجرد مجاملة للمسلمين، لا تعبّر عن موقفٍ جِدّي.
في نظري، ينطلق البابا من تعريف محدَّد للدين، على اعتبار أنّ جوهره رسالة محبة وسلام. فعلى اعتبار أن الإسلام دين، وليس أيديولوجية هيمنة سلطويّة، فإنّ التفسير المناسب للقرآن يتعارض ضرورةً وتعريفًا مع العنف. إنه من الأهمية بمكان، في الظروف الصعبة التي نمرّ بها، الاعترافُ بالأغلبية العظمى من المسلمين كممثِّلين للإسلام، ونزعُ كلّ مصداقية دينية من الإرهابيين والمتطرفين. فالذي يخلط بين الإسلام كدين والإرهاب، إنما يخدم أهداف الإرهابيين الذين يريدون تقسيم العالم إلى معسكرَين متصارعَين، حتى يتمكّنوا من اقتناص النفوس الضعيفة. وأيضًا يخدم الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتذرع بخطاب الكراهية والخوف؛ من أجل اصطياد ناخبيها وتوسيع قاعدتها. أمَّا البابا، فقد اختار مُحاوِريه، بل حلفاءه، من أجل ترسيخ السلام، ووقفِ التدحرج الخطير نحو هاوية العنف.
في أثناء رحلة العودة من بولندا، وبعد أيام قليلة من اغتيال الأب جاك آمل في فرنسا (عام 2016)، قال البابا للصحفيين: "لا يعجبني الحديث عن عنف إسلامي"، ثم أضاف: "لا يمكن القول: الإرهاب الإسلامي. إنه ليس صحيحًا ولا عادلًا". لقد مسّ البابا جُرحًا مفتوحًا يتألم بسببه الكثير من المسلمين، الذين يرَون يوميًّا هذا الاقتران المأساويّ بين الدين والدم، ويرَون أعزَّ ما يملكون يُمتهن بهذا الخلط مرّتَين: مرة على يد الإرهابيين، ومرة على يد الشَّعبويِّين الذين لديهم مصلحة في هذا الخلط. البابا يدرك بعمق أن هذا الاقتران الظالم، يمسّ قضية الدين كدين في عالمنا المعاصر، فبات يُنظر إلى الأديان عمومًا كمصدر للعنف والصراعات.
قال البابا في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام (عام 2017): "إن اللاعنف الممارَس بحزم وتناسق قد ولّد نتائج مذهلة. النجاحات التي حقّقها المهاتما غاندي وخان عبد الغفّار خان في تحرير الهند، ومارتن لوثر كينغ الابن ضدّ التمييز العنصري، لن تُنسى أبدًا". لقد كان ذِكر عبد الغفار خان (1890-1988)، مفاجأةً لمساعدي البابا في تحرير الرسالة؛ فقليل من الناس يتذكّر اليوم هذا الاسم. أراد البابا أن تُذكر شخصيةٌ مسلمة إلى جانب أسماء كبيرة في تاريخ النضال السلمي، كمثال ملموس يؤكّد ما قاله في "فرحة الإنجيل" بشكل نظري.
عبد الغفار خان، سليل قبائل الباشتون في أفغانستان، أرض لا تُذكر اليوم إلا في سياق الحروب، كان مثالًا للقائد المتديّن اللاعنفي، حتى قبل أن يلتقي بغاندي. نادى بتعليم البنات وبنى لهنَّ المدارس، وأنشأ جيشًا منزوع السلاح "خداي خدمت كار، أو خدّام الله". بذَل مئاتٌ من أعضائه حياتهم في مقاومة الاستعمار البريطاني، وهو نفسه قضى قرابة نصف عمره في السجون. فاللاعنف لا يعني الاستسلام، بل المقاومة الأخلاقية لكل أشكال الظلم والاضطهاد. هذا الاسم جدير بالتذكير في وسط ازدادت فيه غواية السلاح.
ذَكَر البابا فرنسيس في رسالته العامة الأولى (كُنْ مُسَبَّحًا) سنة 2015، صوفيًّا مصريًّا يُدْعى عليّ الخوّاص (ت. 1532م)، سمّاه بـ (المعلِّم الروحي)، كان يرى في "طنين الذباب، وصرير الأبواب، وتغريد العصافير، وعزف الأوتار، ونحيب الناي، وتنهّد المرضى، وتأوّه المنكوبين.."، أسرارًا تُحيل إلى الباري تعالى. فلمقاومة العنف في أنفسنا وحولنا، لا بد من روحانية صافية قوية ترى الجمال وتبحث عنه، تحيا بحضور الله في العالم، تُحاور آيات الله في الوجود، ولا بد من قلبٍ حسّاس للظلم، شغوف بالعدل والسلام. إنْ لم يقدّم المؤمنون الحقيقيون نموذجًا حيًّا مُحْييًا من الدين، فإنه يصبح مرتعًا لِلُّصوص، وصائدي الكنوز والرؤوس.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.