إنَّ الغاية الحقيقية من إيجاد القوانين في جميع دول العالم، تأتي بُغية تنظيم الحياة العامة للمجتمع، لتكُون هذه القوانين واحدة من الآليّات التي تُقدِّم الخدمة للإنسان، وتُقلِّل من مُعاناته -إنْ لم تُنْهِها بشكل عامّ-. لكن، يَحدث أن يكُون هناك مَن يجعل مِن هذه الآليَّات المؤسَّساتية، فرصةً لحماية مصالحه الشخصية والحزبية، على حساب المجتمعات.
بعض البُلدان تعيش الفوضى الديمقراطية بإطارها العامّ، والسُّلطَويّة البعيدة عن المؤسسات والحقوق في مضمونها. فهناك قوانين ومُسَوَّدات قوانين، كُتبَت لأجل ألَّا يكُون الإنسان حُرًّا، وأن يبقى مُكبَّلًا وذليلًا للسُّلطة. ويا للأسف، نستطيع القول إن عقليَّة التشريع في العراق بشأن القوانين التي يجب تشريعها، تقضي بأن تكُون أحيانًا قوانين تقييديّة لا تنظيمية، وأن يوضع كلُّ ما يُمكن أن يَجعل منها قوانين تَخدم السلطة والأحزاب، ولا تخدم المجتمع. لذا، تراها تستجمع قواها السُّلطويَّة، وتضعها في فقرات مُسوَّدات القوانين التي يُراد تشريعها. فيصبح القانون سجنًا، لا حُرِّيّة منظَّمة.
القوانين التي تتعلق بالحقوق والحريات في العراق، لا تتطابق في كثير من المرَّات مع الدستور العراقي، الذي يَكفل كلَّ الحقوق للإنسان، ولا تتطابق دومًا مع القوانين الدولية، والاتِّفاقيّات التي يجب أن يلتزمها العراق، ولا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يُفترض فيه أن يكُون مرجعًا أساسيًّا في التشريعات الوطنية، وألَّا يُشرِّع أيَّ قانون يُخالف فقراته، مع أنه ليس إلزاميًّا للدول.
يعمل مجلس النُّوّاب حاليًّا على تشريع "قانون الجرائم المعلوماتية". هذا القانون الذي بدأت فكرته منذ عام 2011، عندما خرجَت مُسوَّدته من الحكومة العراقية، إبّان التظاهرات التي انطلقت في ذلك العام، والتي وُوجِهَت في كثير من المرَّات بالقمع. لكنّ مُسوَّدة القانون لم تُشرَّع. وقبل أكثر من عام، عاد القانون إلى الواجهة من جديد، وبِذَات الفقرات التي رفَضها المجتمع المدني قبْلًا. والقانون من عنوانه "الجرائم المعلوماتية"، فيه رسالة ترهيب وتخويف للمجتمع. وإن اتَّفقنا مع العنوان على مَضض، إلَّا أنّ بعض فقراته قد تستهدف -برأي قانونيِّين-، النشطاء والصحافيين والسياسيين المعارضين، وربما تستهدف أيضًا أيَّ محاولات للكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان، أو عمليات إضرار بالمال العامّ، من خلال مصطلحات مُبهمة.
وضَع المُشرّع مصطلحات مثل: "المساس باستقلال البلاد، والترويج أو التعامل مع جهات معادية، وتعريض البلاد للخطر، ونشر وإذاعة أخبار كاذبة". هذه مصطلحات فضفاضة وعامة، تحتاج إلى تعريف وإلى إفهام أكثر. فهي بهذه الطريقة، يُمكن أن تُستخدم ضد الخصوم السياسيين وضد النشطاء والصحافيين. لذا، وُجودها يُشكِّل خطرًا كبيرًا على الحرِّيّات. أمَّا مُسوَّدة قانون حرية التعبير والتظاهر السِّلمي، التي كُتبَت أيضًا لذات السبب في عام 2011، فهي ما زالت أيضًا تُعاني المصطلحاتِ الفضفاضةَ والتعبيرات غير المفهومة والتقييد لا التنظيم. على سبيل المثال: "الرموز السياسية، والرموز الدينية، والرموز السياسية، والآداب العامة... إلخ".
هناك أسئلة تحتاج إلى إجابات: مَن الرَّمز الديني؟ ومَن الرمز السياسي؟ وما الآداب العامة؟ إنّ بقاء المُسوَّدة بهذه الطريقة، يُمكن له أن يَخلق ديكتاتوريات متعددة وليست واحدة، ويُمكنه أن يُودِع الآلاف في السجن خلال الأسبوع الأول من إقرار القانون. فيتحوَّل القانون إلى أداة قمع. على سبيل المثال: تَنصُّ الفقرة أوّلًا من المادة السابعة من المُسوَّدة المقترحة، والتي يرفض عدد من الكتل السياسية تعديلها: "للمواطنين حرية الاجتماعات العامة بعد الحصول على إذن مسبق من رئيس الوحدة الإدارية قبل (5) خمسة أيام في الأقلّ على أن يتضمن طلب الإذن موضوع الاجتماع والغرض منه وزمان ومكان عقده وأسماء أعضاء اللجنة المنظمة له". إن المادة المذكورة آنِفًا تُلزمنا الحصول على "إذن" من السلطات، إذا ما أردنا التظاهر أو التجمُّع، وإنْ كان ذلك سلميًّا؛ في حين ما يجب أن يكُون، هو إخطار فقط للسُّلطات بتظاهراتنا وتجمُّعنا. فإنْ كُنتُ أتظاهر ضد السُّلطات لسوء الخدمات، فهل تُعطيني السُّلطة التي أتظاهر ضدّها، إذنًا لذلك؟
مُسوَّدة القانون التي عمِلَت قُوًى من المجتمع المدني خلال السنوات الماضية، على عدم إبقائها مِثلما كُتبَت، من خلال الاجتماعات التي عُقدَت مع كُتل سياسية ولجان برلمانية – ما زالت أسيرةً بين قوًى سياسية كبيرة. هذه القوى، تسعى جاهدة لتشريع القانون بالطريقة التي تراها مناسبة حسب وجهة نظرها؛ ليس لأنها تتطابق مع الدستور العراقي. كلَّا، بل لأنها تَخدم المصالح الحزبية على ما يبدو.
هاتان المُسوَّدتان، تُوحيان بأن عقليَّة التشريع العراقي، ما تزال تعاني تَراكمات حِقَب الديكتاتورية، أو أنها تريد إعادة إنتاجها بصيغ جديدة ومتعددة. فبأيِّ حقٍّ يتحوَّل القانون من تنظيمي إلى تقييدي؟!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.