لا تنتهي مأساةٌ على هذه الأرض حتّى تبدأ أخرى. بعضها من صُنع الطبيعة كالزلازل والأعاصير والبراكين، وأغلبها من صُنع الإنسان، وفي كلّ الحالات الضحايا دائمًا من الأبرياء المُسالمين المدنيّين. آخرها مأساة شعب الروهينغا، الأقليّة المُسلمة في ميانمار التي تتعرّض لواحدة من أبشع جرائم التطهير العرقيّ؛ بهدف طردهم من البلاد التي يعيشون فيها من مئات السنين، وإجبارهم على الهجرة بالقتل والتنكيل.
منذ أنْ بدأت تتوارد أخبار ميانمار، هبَّ الجميع إلى مشاركة ما يحصل بكلّ السبل المستطاعة. المشاركة والنشر مُهمّان؛ لخلق رأيٍ عامّ عالميّ مُتعاطف وضاغط على الحكومة المعنيّة؛ لوقف اعتداءاتها. بابا الفاتيكان كان من أوائل المُتعاطفين معَ القضيّة، والصحافة العالميّة كلُّها اهتمّت بالأخبار، وانتشرت حملاتٌ تدعو إلى التوقيع على عريضة لسحب جائزة نوبل من رئيسة ميانمار؛ بسبب موافقتها على ما يجري في بلادها.
وسط كلّ هذه الأحداث خرجت أصوات من هنا وهناك تشكّك في كلّ موقف مُساند، وتتساءل عن سبب التعاطف، وتكيل الاتّهامات لكلّ مَن يُساند الأبرياء بدافع إنسانيّ. أُناس يَعُدّون كلمة "إنسانيّة" تهمة، دليلٌ دامغ على نقص الوازع الديني الذي يدفعهم إلى التعاطف معَ الأبرياء مِن ضحايا دينهم فقط. ولو جلس هؤلاء معَ أنفسهم دقيقة تأمُّل، لاكتشفوا تناقض شخصيّاتهم الرهيب. فهم من جهة يدعون شعوب العالم المختلفة في دياناتها مساندة قضاياهم بِدافع الإنسانيّة، في حين أنهم يرفضون التعاطف مع شعوب العالم المظلومة مِن المنطلق نفسه.
وعلى العكس تمامًا، فإنّ الكثير منهم يذهب أبعد من ذلك، فيشمت بمصائب غيره بطريقة مؤلمة، وتجد الكثير يقدّم تفسيرات غريبة وتحليلات لا يقبلها عقلٌ في كوارث بيئيّة مُثبَتة أسبابُها علميًّا، كإعصار إرما الذي ضرب ولاية فلوريدا أخيرًا. أُناس يفتقرون إلى المنطق في التحليل والتفسير، فإنْ حلّت بهم وبأبناء طائفتهم كارثة فهي ابتلاء، وإنْ أصابت غيرَهم مصيبةٌ فهي عقاب من الله، والله أكرم وأرحم ممّا يدّعون.
لا أعرف كيف يُمكن لبشرٍ أنْ يشمت بوفاة طفلةٍ غرقًا بسبب إعصار! فأيّ عقل يبرّر لشخص الفرح بسبب مأساة حلّت بشعبٍ في أقاصي الأرض لأيّ سببٍ كان؟! وهنا أعود للخطاب الدينيّ الذي ظلّت الشعوب في منطقتنا تسمعه لسنوات طويلة، حتّى باتت بعض العقول مبرمجةً على كراهية الآخَر دون تفكير. ولو جلس الواحد من هؤلاء الناس معَ نفسه، لوجد أنّ الإنسانيّة كان لها أكبر الأثر في إنقاذ أبناء ديانته مِن الموت والظلم.
الإنسانيّة هي التي فتحت أبواب دول أوروبيّة أمام اللاجئين السوريين، الذين هربوا من الحرب والقصف ليجدوا من يحتضنهم ويقدّم لهم المعونات، على الرغم من ديانتهم المختلفة.
الإنسانيّة هي التي دفعت الأغلبيّة هناك إلى التعاطف معهم، على الرغم من الفَوارق الكبيرة بين الثقافات، وعلى الرغم من خوف المجتمع الأوروبيّ على قيمه وحرّيّاته التي ناضل سنوات طويلة من أجل الحصول عليها.
الإنسانيّة هي التي دفعت المواطن الأميركيَّ إلى الخروج من بيته إلى ولاية أُخرى تبعد آلاف الكيلومترات؛ للمشاركة في مُظاهرات دفاعًا عن حقّ الأقلّيّات ومنهم المسلمون، ومطالبًا بإلغاء أيّ قرار يميّز بين الأميركيّين على أساس دينيّ أو عرقيّ.
الإنسانيّة هي التي دفعت قاضية أميركيّة إلى وقف قرار مَنْع دخول مواطني بعض البلدان إلى أميركا، بخلاف مصلحتها ومصلحة وظيفتها التي خسرتها فورًا بسبب موقفها الإنسانيّ.
علينا أنْ نعيَ أنّ ازدواجيّة المعايير في التعاطف مع الآخَر هي أحدُ أكبر أخطائنا، التي لم تجلب إلينا سوى الكوارث. فإنْ لم يجرحْكَ اغتصاب الأيزيديّات في العراق، فلا تتوقّع من العالم أنْ يهبّ إلى إنقاذ نساء مُسلمات في بورما أو غيرها، وإنْ لم يُبكِكَ غرق طفلٍ بسبب إعصار ما في فلوريدا، فإنّ غيرك سيتوقّف عن التعاطف معَ أطفالٍ من نفس ديانتك لقُوا نفس المصير في مكان آخر من العالم؛ بسبب زلزال أو تسونامي أو غيرهما. هي المأساة نفسها والضحيّة واحدة، الإنسان، وكلّنا مِن آدم وآدم من تراب.
المناخ في العالم يتغيّر، والاحتباس الحراريّ سيجلب المزيد من الكوارث والأعاصير والزلازل، وهي لا تميّز بين ديانة وأخرى، أو بين شعب وآخر. فلنقفْ معًا كبشر، ولنساندْ بعضنا بعضًا، فكلّ مَن يعيش على الأرض قد يكون ضحيّة يومًا ما. لِندْعُ الله أنْ ينجِّيَ كلّ مَن على هذا الكوكب، ولْنَسْقِ بذرة تعاطفنا معَ الآخر بماء الإنسانيّة الصافي، فالإنسانيّة ملاذنا الوحيد للعيش بسلام، ولنتذكّرْ أنّ ما نزرعه لا نحصد غيره، فإنْ كان حُبًّا جنيناه، وإنْ كان كُرهًا تجرّعنا علْقمَهُ.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.