لا شك في أنَّ أيَّ مجتمع إنساني، يتّكئ على كنز لا يُقدَّر بثمن، من الثراء الحضاري الذي تحمله مكوِّناته وفئاته المختلفة، التي تَجهل أحيانًا بعضها بعضًا، نتيجة السعي لتجاهل الخصوصيات الثقافية، بغية تعزيز هُويّة وطنية واحدة. لكنَّ الوَحْدة ينبغي ألّا تُلغي التنوُّع، والتنوّع يجب أن يظلَّ دائمًا مَصدرًا للوحدة الإنسانية والحضارية.
إن التَّعليم هو السبيل إلى إعداد أجيال تحمل ذاكرة مختلفة عن مجتمعها، ذاكرة تُدرك أن الوطن هو قبل كلِّ شيء ثراءٌ ثقافي وحضاري، وأن الوطن الذي تتنوَّع جماعاته وثقافته هو مجتمعٌ قويٌّ جدًّا، لأنَّه يحمل ثقافات عابرة من أجيال إلى أخرى، تعلَّمت من بعضها بعضًا، وتَحاورت في جوانب الاختلاف بينها، وبنَت نمطًا حياتيًّا يعكس تنوُّعها. وهذا ما يقودنا إلى التفكير في سؤالَين مهمَّيْن، هُما: ماذا نعلِّم؟ ومَنِ الذي يجب أن يقوم بالتعليم؟
هذانِ السؤالان، يجب أن يقودانا إلى مراجعة للمنهج وكيفية بنائه، في ضوء مداخل ثقافية إثنوغرافية، عادةً لا تَلقى الاهتمام الكافي من المسؤولين عن إعداد المناهج، فتقود إلى إضعاف اتصال -المدرسة بشكل عامّ والمنهج بشكل خاصّ-، بالمجتمع وتراثه وثقافاته وعاداته وتقاليده. وهذه الفجوة تُضعف من قدرة التعليم على بناء شخصيةٍ تُدرك حقيقة واقعها، وما يحمل هذا الواقع من فرص وإمكانات وقدرات وثروات مَعرفيّة ذات عمق تاريخي.
لذا، لا بد من توظيف المدخل الإثنوغرافي في بناء المنهج الدراسي، وَفْق نظرية الأرصدة المَعرفيّة التي طورها الباحث لويسمول (Moll) وزملاؤه من جامعة إريزونا وهي تشير إلى المعرفة التي يحصل عليها الطلبة من المشاركة الفاعلة في الأنشطة الأسرية العابرة للأجيال، وتنطلق النظرية من فرضية مفادها أن الطلبة لا يأتون إلى المدرسة وهم صفحة بيضاء إنما يأتون بخبرات أسرية ثرية يمكن أن تنقل إلى سياق المدرسة ويستفاد منها في بناء خبرات التعلم وفقًا لهذه الجوانب الثرية التي يمتلكها الطلبة، ومن ثم تثمن النظرية ما يملكه المجتمع، وتجعل منه أساسًا للخبرات التي تضعها في المنهج، بل قد تذهب بعيدًا إلى هدم الأسوار المدرسية، وجعل المجتمع يَحضر إلى الداخل لتعليم الطلبة، ثم إرسالهم إلى المجتمع ليتعلَّموا من أفراده، ممَّن يَحملون تجربة ثرِيّة زراعية أو صناعية أو طبية أو غذائية، وينطلقون منها إلى أفق أكبر للمقارنة بما تملكه الثقافات الأخرى، ممَّا له صلة بما يدرسون.
وهنا، يكُون التعليم عبر الثقافات ينطلق من المحلِّي إلى العالمي، أيْ إلى توسيع الرؤية نحو تنوُّع العالم وأساليبه المختلفة وأنماط حياته؛ ما يقود إلى ترسيخ مسألة مهمّة جدًّا لدى الطلبة، وهي تقدير ما لديهم وما لدى الآخرين. وهذا الاتجاه ضروريٌّ جدًّا لتجنُّب بناء شخصية "شوفينية" (متعالية) متعصِّبة متمركزة حول ذاتها، لا ترى الثراء الذي يحمله عالمنا الواسع.
لقد قُمنا بتجربة محفِّزة جدًّا على توظيف نظرية الأرصدة المَعرفيّة في سلطنة عُمَان، بالتعاون مع طالبة دراسات عليا أشرفت عليها، حيث جرى التطبيق على قرية زراعية عُمَانيّة، وبالمقابلة مع الأهالي والاستفادة ممّا لديهم في بناء المنهج وتدريسه، وربط الخبرات بجوانب رياضية وعلمية وهندسية واقتصادية. وقد شاهدنا الحماس الكبير لدى الطلبة وأهاليهم أيضًا، وأثبتت التجربة فاعليّة هذا النهج في تعزيز الهُويّة الثقافية والتحصيل وبقاء أثر التعلُّم. أمَّا اتِّجاهات الطلبة، فكانت إيجابية تجاه الوحدة الدراسية التي أُعدَّت وَفْق الأرصدة المعرفية، بل إنّ الخبرات التي تعلَّمها الطلبة في المزارع من قبل الأهالي، كانت المرّة الأولى لعمليَّةٍ قائمة على التعلُّم بالعمل، الذي يقود إلى بناء معنًى لِما يجري تعلُّمه، وهو ما يجب أن يركِّز عليه النظام التعليمي من أجل تجاوُز أزمة التعلُّم، التي حذَّرت منها منظَّمات عالمية في العالم الثالث، من ضمنها البنك الدولي.
إن الأرصدة المَعرفيّة تُعدُّ مدخلًا من مداخل إصلاح التعليم في الوطن العربي، وإخراجه من عزلته عن الواقع. فالخروج من هذه العزلة، وربط الخبرات التي تُقدَّم للطلبة بمجتمعاتهم، سيعزِّز من انتمائهم إلى مجتمعاتهم، وسيجعل من المجتمع مختبرًا مدرسيًّا يتعلَّم منه الطلبة، ويُولِّد لديهم المسؤولية للمشاركة في التغيير. ومِثل هذه الفوائد التي قد يحقِّقها منهج الأرصدة المَعرفيّة، ستنعكس على التنمية في مجتمعاتنا. وهي تنمية لا بدَّ أن تُمكِّن الإنسان من الفهم والوعي والمشاركة، والتعبير عن المُواطَنة المسؤولة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.